العدد 2232 - الأربعاء 15 أكتوبر 2008م الموافق 14 شوال 1429هـ

«البحرين ذاكرتها خارج حدودها!»

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

هل وصلت التجارب الديمقراطية المعاصرة في منطقة الخليج إلى نفق مسدود، وأضحت تراكماتها الزمنية سواء في الكويت أم في البحرين أشبه ما تكون بالاختناق والردة والعودة إلى الوراء؟!

هل انتفت كل السبل أمام المشروعات الإصلاحية وتجارب الدمقرطة حتى تتمكن من تجديد ذاتها والتخلص من زلاتها ومن عثراتها، وما ساهمت فيه من إعادة نبش للجروح الطائفية غير المندملة في البحرين وتعميق أزمة عدم الثقة بين المكونات الرئيسية للمجتمع والدولة، أو من خلال تمكين القوى الرجعية من التيارات الدينية - السياسية وأفراد العائلات «القبلية» على حساب خلق «نخبة وطنية»؟!

هل الحل سيكون بالعودة من جديد إلى الوراء وفسخ العلاقة مع حلم الإصلاح والديمقراطية ذاك وبالتالي «شرقنة» رواية استشراقية ترى في استحالة تحقيق الديمقراطية في الدول العربية أو في منطقة الخليج؟!

هي أسئلة كبرى وجلجلة لربما هجست وتناسلت أصداؤها العميقة بداخلي حينما قرأت مقال الكاتب والأكاديمي القطري أحمد عبدالملك المنشور في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية تحت عنوان «عثرات الديمقراطية في الخليج!» والذي تمحور حول فشل تجارب الديمقراطية في الخليج ومقارنتها بما كان عليه الوضع سابقا من «تعاقدات» على اعتبار أفضلية السابق على اللاحق حيث كتب عبدالملك «وجدنا أننا أفضل حالا في الماضي من دون مثل هذه التجارب. وأن صيغة التوافق -التي درجَ عليها مجتمعُ الخليج في التعامل مع الحكومة - كانت أكثر انسيابية وإنتاجية من «وجع الدماغ» الذي جاءت به الديمقراطية العرجاء في المنطقة، والتي يدور حولها كلام كثير، لكن «الطحن» قليل؛ بل ومفاهيم المجتمع تعود القهقرى!».

ورأى الكاتب أن الإشكالية الأساسية تبرز في عدم «رضا فئات كبيرة من المجتمع عن نتائج وأطروحات هذه الديمقراطية» كما استشهد بمثال بحريني فيما يتعلق بموقف النواب من «ربيع الثقافة» وغيره من مهرجانات وفعاليات ثقافية وفنية ومساس بالحريات الخاصة فكتب «إذ لم يحصل في تاريخ البحرين أن قامت جماعة ضد الثقافة! أو ضد الرموز والملامح الثقافية في البلاد. ولقد عُرفت البحرين بأنها مركز احتضان التيارات الفكرية الأدبية والفنية، ومنها ظهرت فنون شعبية كثيرة أثرَتْ الحياة الفنية في الخليج»، وهو بالتالي يرى إمكانية تكرار هذه التجربة المحبطة والمثبطة من عزم القوى التقدمية والديمقراطية في الخليج حيث أن «مثال مملكة البحرين يمكن أن يتكررَ في أكثر من بلد خليجي. فلئن تشكّلَ مجلسُ أمة أو شورى في بلد خليجي، وكانت غالبيته من أبناء الفئات التي قد ترى إغلاقَ البلاد أمام الاستثمارات والأشخاص، ووقْف المعاهدات الاقتصادية العملاقة مع الشركات الغربية، ومقاطعة الولايات المتحدة والغرب، وإغلاقَ المعاهد والجامعات الأجنبية، وإلغاءَ التعامل باللغة الإنجليزية في مرافق البلاد، وإعادة َصرف «الشرهات» على أساس قبليّ بَحت!».

وطرح زميلنا عددا من التساؤلات المصيرية التي لا بد وأن يقف أمامها أي داعية سياسي للديمقراطية في أي بقعة على وجه الأرض والتي من بينها «ماذا عن الدساتير التي تمنحُ الحاكمَ سلطاتٍ أعلى من سلطات المجلس النيابي؟ هل يستطيع المجلس، المنتخب ديمقراطيا، أن يُطالب بتحديد تلك السلطات؟! وبعد، هل فعلا نحن نعيشُ الوقت الملائم للديمقراطية؟» .

وبالتالي يؤكد عبدالملك على أن «الديمقراطية حزمة Package لا يُمكن تجزئتها. فإذا كانت الديمقراطية تؤيد وتؤكد مبادئ حقوق الإنسان، ويأتي القانون أو الدستور ليُعارض تلك المبادئ، فأين الديمقراطية؟! وإذا كانت الديمقراطية تؤكدُ سواسية البشر أمام القانون، ويأتي القانون ليُفرق بين البشر ويمنح بعض المواطنين حقوقا يُحرّمها على آخرين، فأين الديمقراطية؟! إننا ندعو إلى قراءة متأنية في دساتير وقوانين المنطقة ومذكراتها التفسيرية» ويضيف «إن تجزئة مفاهيم ودلالات الديمقراطية (حسب الأقاليم ونوعية الأنظمة الحاكمة) نوع من (الهَرطقة) السياسية التي لن تصل بالمجتمع إلى ما ينشده من استقرار وحُكم رشيد»، فهل كان مقال عبدالملك هو نوع من الملح القارص الذي عقم الجراح ولكنه زادها ألما والتهابا أم رصاصة الرحمة في رأس الديمقراطية الخليجية وجواز تخليصها من عذابها؟!

وهل تكون العودة إلى الوراء حلا وبديلا أم هروبا إلى الأمام ويأسا واستسلاما نخبويا؟!

أليس من الأفضل لو كان السؤال أكثر عمقا ودقة على نحو «ما الذي جرى؟! ولماذا أصبحنا هكذا؟! وكيف الخلاص؟!» بدلا من أن يكون أخونا الكاتب وغيره عرضة للاتهام باليأس والإحباط؟!

وهل الديمقراطية أصلا هي سلعة فكرية وإجرائية يمكن أن تستورد وتستعمل ضمن كتيب إرشادات ميكانيكية مترجم لأكثر من لغة، أم أن التوجه نحوها هو حصيلة وعي مرحلي معيّن وبالتالي تنشأ وتستنبت الشتلة الديمقراطية في خصوصية تاريخية ومجتمعية محددة حتى ولو كانت ضمن إقليم جغرافي واحد، وبالتالي ضرورة تناول تجربتَي البحرين والكويت بشكلين متغايرين وأكثر حدة؟!

وبالنسبة لآفاق البحرين المسدودة، فما وصلت إليه التجربة في النهاية من حريات أقرب إلى الهوامش منها إلى المتن الرئيس، وسلطة تشريعية ذات صلاحيات وسلطات متواضعة وتقبع في أسفل السلم السلطوي الدستوري ومع ذلك تعمل على تقويض نفسها بنفسها، وبالإضافة إلى ارتدادات رجعية إلى زمن ما قبل الدولة يزداد فيها نفوذ الطوائف والقبائل وتتقلص أو تغيب «الجماعة الوطنية» أو «الكتلة التاريخية» أو ربما هو تحرك نسبي ضمن ذات البؤرة الزمنية، وهو ما يترك انطباعا لدى الكثيرين بأن تلك التجربة إما أنها ولدت ميتة أو مجوفة أو ربما هي أتت كحاجة عملية وأداتية لشكل وإطار محدث لإعادة ترتيب العلاقات الهرمية وتصريفها هيمنة ما بين المجتمع والدولة ومع ذلك قد زاد هذا الإطار من حقيقة تلك الثغرة والفجوة الجذرية، إلى جانب توسع السلطات الرئيسية بشكل عمودي على حساب بعضها البعض مما جعل المواطن الواعي في حيرة من أمره من إمكانية أن يكون هذا المشروع وهذه المرحلة الانفتاحية هي فترة انتقالية إلى مرحلة عسكرة الدولة والانتصار لبعدها الشمولي؟!

وبالنسبة إلى الثقافة المؤسسية والبيروقراطية السائدة مازال بالكاد التفريق ما بين الحيز العام والخاص فالاثنان يتقاطعان ببعضهما، وظلت الطبقة التجارية بعيدة عن المشهد السياسي ومأسورة بامتيازات وأفضال الدولة، وتدهورت أو أبيدت الطبقة الوسطى لتحل مكانها طبقة الأثرياء والمنتفعين الجدد أو «الطبقة الوسخة»!

ناهيك عن ضمور الثقافة السياسية الوطنية واستحالتها إلى «سكلر» سياسي مزمن، وضحالة الوعي الديمقراطي بين النواب وحتى بين فئة كبيرة من المثقفين والنخب قبل غيرهم من عامة الشعب إلى حد أصبحت فيه «تهم الخيانة العظمى» الأكثر تداولا نخبويا ونيابيا وشعبيا وصحافيا وعلى الأصعدة كافة فيما يتجاوز حتى تهم الجنح الجنائية وهو ما أشرنا إليه في مقال سابق!

كما برزت شعبنة السياسية في أكثر صورها ابتذالا، وذلك في وقت ظل فيه الوعي السياسي الشعبي أسيرا لأجندة الصناديق الخيرية والتزكيات الإيمانية والفتاوى المسيسة سواء المدعوم منها سلطويا في «حلف استراتيجي مقدس» أو المحسوبة على المعارضة الطائفية التي تقدم لها خدمات جليلية ربما دون قصد، وكأنما بات المجتمع البحريني في النهاية بحاجة ملحة إلى «خطة مارشال» أخرى لتحرير وعيه السياسي الموالي والمعارض معا بعدما أخذت القوى والتيارات النضالية التقدمية النخبوية تبدو إما ممسوخة ضمنا وشكلا وعاجزة عن التأقلم مع المرحلة والاتصال مع المجتمع، أو أنها تعاني من أسوأ كوابيسها وكأنما هي ترثي أيام العريضة الشعبية والعريضة النخبوية وغيرها من محركات عمل سياسي تُعتبر تقدمية جدا مقارنة بما هو عليه واقع العمل السياسي الوطني المتخلف في الوقت الحالي!

كما أدى التطبيق المنقوص والمتسارع للآليات الديمقراطية المجوفة من دون تحقق انتقالة نوعية وحقيقية إلى دولة ومجتمع المواطنة الدستورية وإلى غياب مصالحة عملية حقيقية بعيدة عن المجاملات الإنشائية إلى تفجير كوابت ومكنون الأحقاد والكراهات والآلام الجماعية والمتبادلة منذ قرون ناهيك من العجز عن حل القضايا الرئيسية المتراكمة منذ عقود، وظهرت البحرين الجديدة فاقدة المعنى كأنما هي ذاكرتها تقبع ما وراء حدودها الجغرافية، ولكن ما يميز ظواهر تلك الذاكرة المتجددة استعادتها بحيوية في المرحلة الحالية بحسب كلام أحد الزملاء هي أن الشعب البحريني أصبح يتذكر أحداث مأساوية منذ قرنين وينسى سنين وذكرى جميلة قضاها في الخمسينيات إبان «هيئة الاتحاد الوطني»، وبالتالي هنالك ضرورة لإعادة نبش واستعادة أحافير و»مستحثات» الذاكرة الوطنية البحرينية!

فهل مع ذلك يكون الرجوع إلى عهد أمن الدولة هو خيار أفضل كما يروم مسعى بعض أدعياء النشاط السياسي بحرينيّا، أم أن خيارنا هو في بروز نخب سياسية وطنية وديمقراطية فاعلة ومؤثرة تدرك شروط ومقتضيات المرحلة وتتعامل معها بمرونة واقعية لا بتثاقل أيديولوجي وتعيد إلى القضايا الرئيسية اعتبارها المفقود في زحمة المحاصصات الطائفية والفئوية؟!

ولعمري إنه لمن الأفضل أن يطرح أي مثقف على نفسه تلك الأسئلة الكبرى قبل سواه، وأن يبادر بطرح البدائل الوطنية المتعاضدة مع مكنته النقدية الحازمة وأن يجتهد في البحث عن أفق ولو سدت جميع الآفاق فوظيفته هي صنع الآفاق لا تعميتها، فذلك أفضل مليون مرة من أن يرتشف قهوة الإحباط واليأس ولو في مقهى خمس نجوم، وتكون حاله أشبه بحال من يفجر نفسه أو يحرقها حينما يشتري الماضي على حساب الحاضر ويبتغي الموت دون الحياة

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2232 - الأربعاء 15 أكتوبر 2008م الموافق 14 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً