لو أن واحدا من الفقراء أو العلماء. خرج علينا قبل شهرين أو ثلاثة يعلن ضرورة العودة واللجوء إلى التأميم، في مواجهة الأزمة الكارثة الاقتصادية العالمية، لهاجت الدنيا ووصفه الجميع بالجنون عند الحد الاقصى، أو اتهموه بالشيوعية والاشتراكية عند الحد الأدنى... أليس التأميم من ممارسات هذه وتلك!
لكن في ظل الكارثة المالية الاقتصادية الراهنة التي ضربت أسس الاقتصاد في أكبر الدول الرأسمالية، من الولايات المتحدة الأميركية إلى الاتحاد الأوروبي أصحاب نصف الاقتصاد العالمي، لجأت هذه الدول الرأسمالية العريقة إلى التأميم... تأميم كثير من البنوك والمصارف والمؤسسات المالية الكبرى وجاء هذا التأميم علاجا لأزمة، كان هو الاختيار الأنسب لمواجهتها من وجهة نظر المسئولين.
والمغزى أن التأميم بقدر ما هو اجراء مكروه في الغرب الرأسمالي، وفي بلادنا أيضا، بقدر ما قد يصبح علاجا فوريّا لأزمة مالية أصابت قلب الاقتصاد العالمي بإصابة شبه قاتلة.
وقد لاحظنا أن ردود الأفعال الأولية في بلادنا العربية عموما على هذه الأزمة جاءت سلبية ومتناقضة وتراوحت ما بين التهوين والتهويل، فقد سمعنا تصريحات لمسئولين كبار يدّعون أن الأزمة التي هزت العالم كله لن تؤثر فينا، فاقتصادنا قوي وبعيد عن الآثار السلبية لهذه الأزمة، بينما يرى أخرون أن بلادنا سواء كانت فقيرة ضعيفة الموارد والمصادر أو كانت نفطية ستكون من أكثر بلاد العالم تأثرا، لأن اقتصادها على صغره وهامشيته هو جزء من ذاك الاقتصاد الرأسمالي الغربي والدولي الذي هزته الكارثة، بل هو الأضعف.
وفي المقابل سمعنا تهليلا ساذجا من جانب آخرين وبينهم كتاب ومثقفون، يطلقون الأفراح، ابتهاجا بهزيمة الرأسمالية الغربية في عقر دارها، وعجزها عن مواجهة انهياراتها المدوية، ومن ثم لجوئها إلى استعارة النموذج الاشتراكي بتأميم البنوك والمصارف والهيئات المالية، ووضعها تحت سيطرة الدولة مباشرة، وإطلاق يد الدولة بالتدخل في حركة الاقتصاد والسوق والتجارة تناقضا مع المبادئ الليبرالية والرأسمالية المستقرة.
وما بين التهوين والتهويل يجدر بنا أن نفكر بعقلانية ونعمل بواقعية، بحثا عن أساليب جديدة وأفكار مختلفة، للتخفيف من تأثيرات الأزمة العالمية هذه على أوضاعنا عموما وعلى اقتصادنا خصوصا، فليس صحيحا أننا بعيدون عنها وعن إعصارها المدمر، ولكن الصحيح والواضح أننا جميعا في قلب الأزمة، سواء كنا فقراء أو أغنياء، لأان كل اقتصادنا وحركتنا المالية والتجارية مرتبطة باقتصاد الأزمة في الغرب الرأسمالي.
***
وخذ على سبيل المثال أولا نموذج الدول العربية النفطية، التي يعتمد اقتصادها على استخراج وبيع النفط، وكلها مرتبطة بالضرورة بالاقتصاد الغربي صاحب خبرة استخراج النفط ونقله وتسويقه وبيعه في الأسواق المفتوحة، من اليابان شرقا إلى أوروبا وأميركا غربا...
لقد راكمت هذه الدول أموالا هائلة من مداخيل النفط، لم تستهلكها كلها في التنمية والتحديث وإصلاح الأوضاع الاجتماعية لشعوبها، لكنها عمدت إلى استثمار جزء كبير من مداخيل النفط في الأسواق الأوروبية والأميركية، وأنشأت صناديق سيادية خاصة أودعت فيها مئات المليارات من الدولارات، ودخلت في مشروعات عملاقة واشترت أذون الخزانة الأميركية وأودعت أرصدتها «الحكومية والشخصية والأهلية» في بنوك الغرب، ويقدر خبراء اقتصاديون أن مجمل هذه الأموال النفطية المستثمرة في الغرب يقدر بثلاثة تريليونات دولار على الأقل، أصبحت الآن رهينة بل ربما ضحية للأزمة المالية الجارية، أن لم تستنزف كلها فجزء كبير منها حتما سيضيع هباء، ما يشكل ضربة موجعة لاقتصادات هذه الدول!
النموذج الثاني، بعد الدول النفطية، هو نموذج مصر ذات الإمكانات المحدودة، والقدرات الاقتصادية القليلة المستنزفة بزيادة عدد السكان، والفساد والتهريب وبإساءة توزيع الثروة، ثم وهبها الله. فوق ذالك بعض أصحاب القرار الهواة، ممن فهموا الرأسمالية بطريقة قاصرة، ولم ينتبهوا إلى أن الرأسمالية تجدد نفسها باستمرار.
على مدى السنوات الثلاث الماضية، أخذت الحكومة المصرية على نفسها عهدا بأن تنتهي سريعا من برنامج ما يسمى الإصلاح الاقتصادي، وأن تبيع كل شيء بما في ذلك البنوك وأصول الدولة وأراضيها ومصانعها ومؤسساتها، وهي في طريقها لخصخصة السكك الحديد والطرق والمرافق العامة، وربما التمهيد لخصخصة قناة السويس والنيل والمجاري المائية، إيمانا منها بضرورة تفكيك سلطة الدولة وهيمنتها على مصادر الانتاج وعلى مجمل الاقتصاد، وترك كل شيء للقطاع الخاص، تحت نظرية حرية السوق والاقتصاد الحر، وكأنها لاتزال متوقفة متجمدة عند مبدأ «آدم سميث» فيلسوف الاقتصاد الرأسمالي. قبل ثلاثة قرون، الذي قال دعه يعمل دعه يمر، أي كل واحد يفعل ما يريد بحرية، بعيدا عن أية سلطة للدولة!
لقد سيطرت فكرة تخلي الدولة عن مسئولياتها، على عقول وأفكار هؤلاء الهواة، الذين رأوا في المجتمعات الأوروبية والأميركية نموذجا فذاّ للنجاح والتقدم، مؤمنين بطريقة عشوائية، بما قاله المفكر الأميركي (الياباني الأصل) فرانسيس فوكاياما، بنهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية إلى الأبد.
وأشك ان الهواة بحكم استسهال خطف الأفكار السابحة في الفضاء، لم يعرفوا ان فوكاياما قد راجع أفكاره، وتراجع كثيرا على مدى السنوات الخمس الأخيرة عن بعض مواقفه، اتساقا مع حركة التطور والتاريخ وأحداثه، وبالتالي لم يدركوا أن الاندفاع المفاجئ والخطوات المتسرعة، في نقل مجتمع قديم مثل المجتمع المصري، من أوضاعه شبه المستقرة على مدى عقود، إلى مجتمع يأكل فيه القوي والغني الفقير والصغير، بلا تدخل من دولة أو حكومة تحمي وترعى وتضبط ميزان توزيع الثروة وحركة التنافس - الصراع بين الطبقات الاجتماعية إنما هو انتحار ، بل هو فعل غير شرعي للمجتمع كله، ولنا أن نتأمل الآثار السلبية الهائلة على الطبقات الاجتماعية المختلفة جراء هذه السياسات، التي جاءت في وقت وقعت فيه الرأسمالية المتوحشة في واحدة من أخطر أزمات التاريخ.
***
وأظن أن الهواة الجدد يعرفون أن مصر تعتمد على خمسة مصادر رئيسية في اقتصادها، هي قناة السويس والنفط وتحويلات المصريين العاملين في الخارج والتصدير الذي يتضاءل أمام شهوة الاستيراد المفتوح، والسياحة المتذبذبة بحكم متغيرات السياسة والأمن... وكلها مصادر عرضة للتأثر السريع بحركة الاقتصاد العالمي، وبالتالي فإن الأزمة المالية العالمية تصيبها مباشرة وربما بآثار قاسية ستكشف عنها الأيام المقبلة.
فإذا اضفنا إلى ذلك أن الأزمة العالمية ستؤدي بالضرورة إلى كساد وجمود، يؤثر على حركة الاستثمار العالمي، لعرفنا أن الاستثمارات الأجنبية في مصر، وكم هي محدودة، ستتناقص، وكذلك فإن المساعدات والمعونات التي تتلقاها مصر من أميركا ودول الاتحاد الأوروبي ستنكمش وربما تتوقف نهائيا، وهو أمر خطير يستدعي اهتماما أعمق من جانب الدولة والحكومة، والبحث عن سبل تخفيف وطأة الأزمة العالمية على البلد عموما وعلى الفقراء خصوصا، بدلا من استسهال اللجوء إلى التهويل والتعمية وإنكار الحقائق، ثم إطلاق التصريحات الوردية التي لا تقنع أحدا على الاطلاق إلا السذج!
نختتم بأن نذكر ان الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى العام 1929، ظلت تراكم آثارها المدمرة على الاقتصاد العالمي حتى وصلت بالعالم إلى إشعال الحرب العالمية الثانية بكل عنفوانها التدميري وضحاياها الستين مليونا، لكي تضخ ماء الحياة وحركة الازدهار في الصناعات العسكرية التي كانت تعاني آنذاك من الكساد، وخصوصا في الولايات المتحدة الأميركية صاحبة أكبر وأقوى صناعات عسكرية في تاريخ البشرية!
فهل ستؤدي الأزمة المالية الراهنة وكساد الاقتصاد العالمي المتوقع، إلى اشعال الحرب العالمية الثالثة، التي نرى مقدماتها جارية في افغانستان والعراق والصومال، حتى تزدهر الصناعات العسكرية مرة جديدة؟!
مجرد سؤال يحمل من الشك أكثر مما يعنى التساؤل فقط...
خير الكلام:
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 2231 - الثلثاء 14 أكتوبر 2008م الموافق 13 شوال 1429هـ