إن الإسلام هو الدين المقبول عند الله، يقول تعالى «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (آل عمران 85). هذا الدين له خصائصه التي تميزه عن غيره تميزا واضحا فاصلا. ومن هذه الخصائص (الوسطية)، التي هي من ثوابت هذا الكون، كما أنها من ثوابت الإسلام. والأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، لها حق الصدارة في المجتمع الإنساني، وحق الريادة والأستاذية، فهي الأمة الوسط في كل شيء.
وللتعرف على معنى الوسطية، نعود إلى معاجم اللغة، لنجد أن كلمة «وسط» تدور حول معنيين، لأحدهما صلة بالآخر:
المعنى الأول: وسط الشيء أي ما بين طرفيه، كقولك قبضت وسط الحبل، وجلست وسط الدار، فالمراد هنا الوسطية المكانية أو الزمانية بين طرفين، وهو مفهوم أولي لمعنى الوسطية... ولما كان وسط كل طرفين هو غاية البعد عنهما معا، فإن هذا يهدينا إلى أصل المعنى الثاني، وهو المعنى الأهم. المعنى الثاني: الوسط من كل شيء... أعدله. فالوسط إذن ليس مجرد كونه بين طرفين، بل أيضا هو العدل والخيار والأفضل. وقوله تعالى «وكذلك جعلناكم أمة وسطا»(البقرة: 143) - أي: عدولا وخيارا، أو أمة مثالية. ونجد في الإسلام تطبيقات رائعة للوسطية، وهذه مجرد أمثلة.
ففي مجال الاعتقاد، نرى الإسلام وسطا بين الخرافيين الذين يصدقون بكل شيء، والماديين الذين ينكرون كل ما وراء الحس ، فهو يدعو إلى الإيمان والاعتقاد، ولكن بما قام عليه الدليل القطعي والبرهان اليقيني. ونراه وسطا بين الذين يؤلهون الإنسان، ويضفون عليه خصائص الربوبية، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وبين الذين جعلوه أسير الجبرية، فهو كريشة في مهب الريح. فالإسلام نظر إلى الإنسان كمخلوق مكلف مسئول، سيد في الكون، عبد لله.
وفي مجال العبادات، نرى وسطية الإسلام بين النحل التي ألغت الجانب العبادي من فلسفتها، وبين النحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة. فالإسلام يكلف الإنسان بعبادات معينة ليظل موصولا بربه، ثم يطلقه في الأرض ساعيا منتجا.
وفي مجال التوازن بين الروحية والمادية، يقول تعالى «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا» القصص: 77).
وتبدو وسطية الإسلام أيضا في الصلة بين الفردية والجماعية في صورة متزنة رائعة، تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة، فقرر على سبيل المثال المسئولية الفردية كما في قوله تعالى «كل نفس بما كسبت رهينة» المدثر: 38 ) وقوله تعالى «ولا تزر وازرة وزر أخرى» فاطر: 18)، كما قرر في الوقت نفسه المسئولية الجماعية كما في الحديث الشريف (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وعندنا في الإسلام ما عرف في الشريعة باسم (فروض الكفاية)، بمعنى أنه إذا احتيج إلى علم أو صناعة أو نظام فيه مصلحة للمسلمين، وقام بالمهمة عدد كاف فقد ارتفع الحرج وسقط الإثم عن الباقي، وإلا أثمت الجماعة كلها.
هكذا هي وسطية الإسلام، إنها صبغة الله تعالى: الحق بين باطلين، والعدل بين ظلمين، والاعتدال بين تطرفين.
كل ما سبق مقدمة ضرورية لطرح السؤال التالي: ما موقع الوسطية الإسلامية في واقع الحركات الإسلامية المعاصرة؟ وما مدى تمكن هذا النهج القويم في عقول وقلوب الذين يتصدون للدعوة إلى الله تعالى؟
قبل الشروع في الإجابة، لا بد أن نتذكر أن الصحوة الإسلامية قد أفرزت عدة تيارات ومدارس واتجاهات إسلامية، يوجد بينها الكثير من التفاوت المنهجي، الذي يشتد ويتسع أحيانا، ويقل ويضيق أحيانا أخرى. فهناك حركات التكفير، تكفير الحكومات والمجتمعات وجماهير الناس بالجملة. وهناك حركات العنف، التي ترى استخدام القوة والسلاح في مقاومة ما تعتقده من باطل، وما تراه من منكر. وهناك حركات التشدد والجمود، الجمود في الفكر، والحرفية في الفقه، والتعسير في الفتوى، والتنفير في الدعوة، والخشونة في التعامل. وهناك الحركات السياسية البحتة التي تمارس السياسة في معزل عن شمولية الإسلام التي استوعبت كل مجالات الحياة. وهناك - ولله الفضل والمنة - حركات الوسطية والاعتدال، وهي الأوسع قاعدة، والأكثر أتباعا، والأرسخ قدما، والأطول عمرا.
ولكن لاتزال المسألة بحاجة إلى بيان، فما هي - تحديدا - المظاهر والأعمال التي يصح معها أن نعتبر حركة إسلامية ما حركة تتمثل بها وفيها وسطية الإسلام؟!
إنها الحركة التي تطبق التوجيه النبوي الكريم (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) متفق عليه. وعندما أوصى الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل عند بعثهما إلى اليمن قال لهما (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا) متفق عليه. فالتيسير (لا التساهل) في الفقه ركن أصيل في النهج الوسطي، ومن هنا يأتي قول الإمام سفيان الثوري (إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد). وكذلك التبشير - لا التمييع - هو نهج الأنبياء والصالحين في الدعوة إلى الله. فما الدعوة إلا أن نحبب الله إلى خلقه، وذلك بزرع الحب والأمل والرجاء في قلوبهم. والحركة الإسلامية الوسطية هي التي تتصدى للفساد والمعاصي، ولكن تنظر إلى أصحاب الذنوب والمعاصي نظرة شفقة ورحمة، لا نظرة حقد وتعالٍ، حتى تتمكن من هداية الناس بكسب ثقتهم أولا.
إنها الحركة التي تجمع في خطابها الدعوي بين النخبوية والجماهيرية، ففي كل مجتمع هناك النخبة المثقفة الواعية، التي توليها الحركة الإسلامية عظيم الاهتمام، ولكنها لا تغفل أبدا عن الجمهور العريض من رواد المساجد، بل حتى من الذين لا يرتادون المساجد، فخطابها الدعوي يصل إلى الكل، وخصوصا أن هذه القاعدة العريضة من الناس هم أهل الفطرة والطيبة، وهم المقصودون بالدعوة ابتداء.
إنها الحركة الإسلامية التي تبني دعائمها على العقيدة السمحة الصحيحة، ولكنها في سبيل ذلك لا تكتفي بالعيش في بطون الكتب من دون أن تتفاعل مع المجتمع، فالعقيدة الإسلامية طاقة حركية هائلة، تحرر الإنسان من الكفر والشرك والإلحاد، كما تحرره من الاستبداد والجهل والفقر.
إنها الحركة التي تنشئ أبناءها على أن يكون الجهاد في سبيل الله أحلى أمانيهم، ولكنها تعي تماما كيف تجاهد، ومن تجاهد، وأين تجاهد. إن الحركة الإسلامية الحقة تربي أتباعها على جهاد الصهاينة والمستعمرين وكل أعداء هذا الدين، ولكنها لا ترتكب المذابح في مجتمعات وقرى المسلمين، وتذبح الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال باسم الجهاد!
إنها الحركة التي ترشد أبناءها إلى تلقي العلوم الشرعية، وهي أشرف العلوم، وتحرص على أن يعبدوا الله على بصيرة، ولكنها تحسن التعامل مع الأمور الفقهية الخلافية، فلا تثير المعارك الجانبية بسبب أمور لو كانت قابلة للاتفاق، لاتفق عليها فقهاؤنا الأفذاذ منذ أمد بعيد.
إنها الحركة التي تحصن أبناءها ضد الغزو الفكري القادم من ديار الغرب والشرق، وتزرع فيهم الاعتزاز بالحضارة الإسلامية الأصيلة، ولكنها أيضا توجه أبناءها لأن ينهلوا من العلوم المفيدة، والتقنيات التي لا غنى للمسلمين عنها وإن كان مصدرها الأعداء، فهذه العلوم هي في الأصل بضاعتنا.
إنها الحركة التي تقود الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعمل على تفعيل الإسلام العظيم في القلوب والعقول، ولكنها تدرك أن المجتمعات الإسلامية قد توالت عليها قرون من الغفلة والضعف، وأن إعادة الأمور إلى نصابها يأخذ الكثير من الجهد والوقت، فلا تستعجل في خطواتها، ولا تطالب الناس بما لا يطيقون، بل تأخذ الأمور بالتدرج والاعتدال. ورحم الله ذلك العبد الصالح الذي وعى ذلك فقال (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم على أرضكم).
وأخيرا هي الحركة التي وصفها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي بأنها: (وسط بين المحكمين للعقل وإن خالف النص، والمغيبين للعقل ولو في فهم النص... وسط بين فلسفة المثاليين الذين لا يكادون يهتمون بالواقع... وفلسفة الواقعيين الذين لا يؤمنون بالمثل العليا... وسط بين دعاة الغلو في التكفير حتى كفّروا كافة المسلمين المتدينين، والمتساهلين فيه ولو مع صرحاء المرتدين... وسط بين المقدسين للأشكال التنظيمية كأنها أوثان تعبد، والمتحللين من أي عمل منظم كأنهم حبات عقد منفرط).
هذه هي الوسطية، المستقاة من نبع الإسلام الصافي، وهذه هي الحركة الإسلامية الوسطية، التي فهمت أن الوسطية هي حبلها المتين، وهي خيارها الاستراتيجي، الذي يكفل لها بإذن الله التوفيق والاستمرارية
العدد 223 - الأربعاء 16 أبريل 2003م الموافق 13 صفر 1424هـ