«النزعة الانسانية العسكرية الجديدة»: نستعير هذه التسمية من عنوان كتاب للمفكر الاميركي المعروف «نعوم تشومسكي» الذي جاء طبقا لها، وقد تنبه تشومسكي إلى شهور هذه النزعة لدى الاميركيين منذ الحرب على يوغسلافيا، فقد عملت اميركا قبل خوض الحرب وأثنائها على صوغ مفاهيم جديدة تضفي المشروعية على تدخلها في شئون الآخرين، فقد (امطرت «التدخلية الجديدة» بآيات الاستحسان من قبل المفكرين والباحثين الاكاديميين والقانونيين، الذين اعلنوا بدء حقبة جديدة في الشئون الدولية تكون فيها «الدول المتنورة» اخيرا قادرة على استخدام القوة إذ «رأت القوة مبررة»، نابذة بذلك «القوانين القديمة المقيدة»، وخاضعة «للمفاهيم الجديدة للعدالة» التي صاغتها هي بنفسها. «إن الازمة في كوسوفو توضح...استعداد اميركا الجديد لأن تفعل ما تعتقد انه صواب، بغض النظر عن القانون الدولي) (د. نعوم تشومسكي: النزعة الانسانية العسكرية الجديدة، ص 11).
أميركا والخشية من إمكان الاستمرار
على رغم كل الامكانات التي تحظى بها الولايات المتحدة اليوم والتي جعلت منها قطبا احاديا منفردا يتربع على عرش الكرة الارضية فإنها مازالت تستشعر ان لديها الكثير من النقص الذي يهدد بقاءها واستمرارها ضمن هذا الوضع الحالي، وهذا الشك في امكانات الاستمرار والبقاء السياسي القوي والفاعل لا يحمله اولئك الذين يكرهون اميركا ويتمنون زوالها فحسب، بل هو يسري حتى في عروق اولئك الذين ساهموا بكل ثقل في رسم سياسات اميركا على مدى عقود من الزمن، ففي كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» يفصح «زبغنيو برجنسكي» عن هذا الهاجس الذي يجعل منه لا يرتقي بطموحه إلى بقاء اميركا حتى لأكثر من جيل واحد، إذ يقول: (لسوء الحظ كانت الجهود المبذولة من اجل تحديد هدف مركزي وعالمي جديد للولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة وإلى حد الآن، ذات بعد واحد. فقد فشلت في ربط الحاجة إلى تحسين الوضع الانساني بضرورة المحافظة على مركزية القوة الاميركية في الشئون العالمية...
باختصار، إن هدف سياسة الولايات المتحدة يجب ان يكون مزدوجا: وهو إطالة عمر الوضع المسيطر لأميركا لفترة جيل واحد على الاقل مع ترجيح ان يكون ذلك لفترة اطول، وإيجاد الاطار الجيوبوليتيكي القادر على استيعاب التوترات والصدمات الحتمية الناجمة عن التغيير الاجتماعي - السياسي اثناء تحوله إلى مركز جيوبوليتيكي للمسئولية المشتركة عن الادارة العالمية السلمية) (زبغنيو برجنسكي: رقعة الشطرنج الكبرى، ص262).
الحرب والمخرج من الأزمة
ابتداع استراتيجيو السياسة الاميركية مصطلح «الحرب الوقائية او الاستباقية» لتبرير سلسلة من الحروب يخوضونها ضد الاخرين ممن يرون انهم سيمثلون موانع تعيق تطبيق رؤاهم الاستراتيجية التي تتيح للولايات المتحدة تحقيق رغباتها في الاستئثار بمصادر القوة والثروة والسلطة في العالم، ولأجل ذلك عمل الاميركيون بكل جد لاقناع العالم بأنهم اذ لم يخوضوا حروبا استباقية ضد الآخرين فإنهم سيخسرون الحروب التي يفتعلها الآخرون ضدهم، ولقد تمت بلورة هذا المبدأ ضمن دراسة مهمة نشرت في كتاب «هكذا يصنع المستقبل»، فكاتب الدراسة التي تتحدث عن «الحرب في القرن الحادي والعشرين» يقرر اولا انه (في القرن الحادي والعشرين ستكون هناك ثلاثة انواع من الحروب هي: حرب المواجهة المتكافئة وحرب السيطرة وحرب البنية التحتية).
والنوع الثالث من الحروب هو اخطرها واسهلها في الوقت نفسه، إذ يمكن لهذه الحرب ان تشن من قبل جهات وربما افراد حتى يمتلكوا القدرة على تخليق جراثيم وميكروبات خطيرة وفتاكة في مختبر ذي إمكانات محدودة ومن ثم اطلاقها في الجو لتقوم بعد ذلك بعمل بشكل تلقائي، وهو ما حدث في قضية «الجمرة الخبيثة» كما يعتقد، من اجل ذلك لابد من تغيير استراتيجيات الحروب التقليدية واستباق رغبات الحرب لدى الطرف المقابل بشن الحرب عليه قبل ان يبدأها، وإلا فإن الخسران سيكون من نصيب من يتأخر في شن الحرب، وهذا المبدأ يكشف عنه - بوصفه استراتيجية اساسية في حروب القرن الحادي والعشرين - الكاتب «إيرل تيلفورد» حينما بقول تحت هذا العنوان «كيف سنخسر حرب العام 2020؟»: (وفي حرب العام 2020 سيتمكن العدو من تشكيل قوات عسكرية مطورة جزئيا ومصممة لصد التقنية الاميركية بتفوق كاف في استغلال مجالات التطور التي يتيحها عصر المعلومات. وسيعمل العدو على حرماننا من المبادرة او استغلال عنصر المبادرة من جانبه. وليس من الضروري ان يهزمنا مثل هذا العدو. وقد يكون كافيا بالنسبة إليه أن يردع تدخلنا في ازمة اقيلمية عن طريق زيادة عنصر المخاطرة بدرجة كبيرة، لكن المؤكد ان العدو لن يحاول التكافؤ مع قدراتنا طائرة بطائرة وسفينة بسفينة ودبابة بدبابة، كما انه لن يقيدنا باستخدام اسلوب الحرب الذي تتبعه قواتنا، بل سيسعى إلى تحقيق افضليات محدودة في ردع المبادرات الاميركية وحرمانها واجهاضها. وبالنسبة إلى العدو المستقبلي فإن توريطه للجانب الآخر في مأزق ما يعتبر هدفا مقبولا.
لكن هناك امكان ان يتمكن العدو من تحقيق نصر حاسم، ولاسيما إذا اثبتت الولايات المتحدة الاميركية قدرتها على حصر نفسها في القتال باستخدام التقنيات المتفوقة المبنية على مبادئ الثورة في الشئون العسكرية. وقد يهاجم العدو المستقبلي باستخدام كل اشكال الحرب، اي سيستخدم اشكال الحرب الثلاثة معا. وفي حين أن العدو يمكن ان يخسر اذا حاول الاشتباك مع الولايات المتحدة الاميركية في حرب قائمة اساسا على مبادئ الثورة في الشئون العسكرية، فإنه قد يتفوق في استخدام قدرات التقنية العالية الملائمة، من خلال التركيز على الصيغ المرتبطة بحرب السيطرة وحروب البنى التحتية) (ايرل تيلفورد في هكذا يصنع المستقبل، ص 182 - 183).
الحرب... من النظرية إلى الممارسة
سرعان ما عملت الولايات المتحدة بعد بلورة استراتيجيتها في ضرورات الحرب الاستباقية على تطبيقها والعمل بها، وقد وجدت في الوضع الراهن في العالم الاسلامي الحلقة الاضعف والاقوى في الوقت نفسه الذي يستثيرها لخوض حرب عالمية، فالعالم الاسلامي هو الحلقة الاضعف لانه يتمتع بالكثير من الكيانات السياسية المهترئة والمرفوضة على المستوى الشعبي، والتي تفتقد اقل القليل من مبررات القبول والرضا، وهناك حال من السخط الجماهيري على الوضع القائم في ظل غياب دور فاعل للقيادات السياسية في مواجهة التحديات الكبيرة التي تحيط بمصير هذا الجزء من العالم، ولكن العالم الاسلامي من جهة اخرى هو الحلقة الاقوى التي ظلت تستعصي على رغبات التغيير الثقافي ومسخ الهوية التي طمحت الولايات المتحدة إلى تحقيقه بوصفه العنصر الذي يكمل تحقيق استراتيجيات التغيير وتفعيل مبادئ العولمة الثقافية والاجتماعية، وسبب القوة هنا لا يكمن في الشخصيات الفردية للانسان في هذا العالم، وإنما يكمن في القدرات الذاتية التي مازال الاسلام ينطوي عليها بوصفه الدين الذي ظلّ قادرا على ربط الانسان المسلم بهويته الاسلامية التي ظلت تختزن الكثير من عناصر الشد والربط إليها في نفس الانسان المسلم، وقد ادرك المعنيون بشئون السلطة وفلسفة الحكم منذ اقدم العصور (أن الذي يقود الشعوب إنما يعود إلى جملة الاعتقادات والعادات الماثلة في الذهن على شكل صور، جرى تقعيد أهمها وتطويبه في شعائر. فالوظيفة الاساسية لهذه الشعائر والقواعد تكمن في انها تطبع في الجماجم الاعتقادات والعادات حتى تشرطها وتعدّها للطاعة والولاء). (ميشال بوغنون: أميركا التوتاليتارية، ص 178).
وهذا الوضع وجدت اميركا نفسها في مواجهته بكل حدة واستنفار في علاقتها بالعالم العربي والإسلامي، ما اوجب عليها ان تلجأ إلى الحرب بوصفها الخيار الوحيد القادر على تغيير انماط العيش وقلع جذور الثقافة الراسخة، وقد نظرّت اميركا لضرورات شن هذه الحرب على العالم الاسلامي منذ مدة طويلة، ووجدت في حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 الفرصة السانحة والافضل للبدء في هذه الحرب، ولكن سيناريو الحرب كان قد أعد قبل ذلك بكثير، وهو الامر الذي تكفل بابرازه «خيرالدين نصر عبدالرحمن» في دراسته الاستراتيجية القيمة «آسيا مسرح حرب عالمية محتملة»، وقد صدرت الدراسة عن مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية قبل حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وفي تلك الدراسة يلقي الباحث الضوء على الحرب القائمة فعلا وبفصح عن البداية التي من خلالها سنتطلق هذه الحرب من خلال استعراض محتويات نشرة رسمية صادرة عن الكونغرس الاميركي في العام 1993، وبشأن هذه النشرة - والتي اطلقت على هذه الحرب تسمية «الارهاب والحرب غير التقليدية» - يقول كاتب الدراسة: (وذكرت النشرة كذلك ان من نماذج هذه الحرب ضد التطرف الإسلامي التي يجري التخطيط لها «التوريط المتعمد عبر تسهيل وصول متطرفين مسلمين الى السلطة، في دولة ذات اهمية استراتيجية وسياسية وخصوصا بالنسبة إلى الولايات المتحدة الاميركية، بحيث يعطي هذا التطور مبررا لاتخاذ اقصى الاجراءات على امتداد العالم بأسره) (خيرالدين نصر عبدالرحمن: آسيا مسرح حرب عالمية محتملة، ص 103).
والسؤال المهم هو: هل كان مسار الحوادث منذ مجيء «طالبان» إلى السلطة في افغانستان إلى يومنا هذا هو شيء آخر غير ما رسمته هذه النشرة الصادرة عن الكونغرس الاميركي؟
ولكن السؤال الاهم والادق هو: هل ستنجح اميركا في استكمال تحقيق استراتيجياتها كما رسمتها من قبل؟
إن الرؤية السطحية لمسار الحوادث والوقائع فضلا عن الرؤية المعمقة والفاحصة تدلل على ان اميركا لن تفلح في تحقيق ما تحلم به، وذلك للاعتبارات الآتية:
اولا: على مستوى التفوق العسكري والسياسي تبدو اميركا اليوم اعجز ما تكون عن تحقيق الامن المطلوب داخل حدودها فضلا عن خارج تلك الحدود، وذلك لأن التفوق العسكري اليوم لا يقاس بما يمتلكه طرف المواجهة من اسلحة دمار وهجوم، ولأن الوقائع التاريخية اثبتت ان الانسان قادر دائما على تحطيم اسطورة وهيبة السلاح الذي يقمع رغباته في التحرر والانعتاق من هيمنة رغبات التسلط والقهر التي تمارس ضده.
ثانيا: على مستوى التفوق في امتلاك الثروات ومصادر الرفاهية تبدو اميركا اليوم اكثر الدول التي تعاني ازمات اقتصادية خانقة تهدّد اقتصادياتها بالانهيار والتداعي، وليس ادل على ذلك من سلسلة الفضائح المتتالية للشركات الكبرى داخل الولايات المتحدة الاميركية، والمنافسة الحادة التي باتت تستشعرها الولايات المتحدة من قبل اطراف جديدة صاعدة مثل اوروبا.
ثالثا: على مستوى التفوق في امتلاك القيم والمعارف فإن اميركا اليوم لم تعد تحظى بأي احترام وتقدير حتى من الشعوب التي مثلت في يوم من الايام النواة الاولى لتشكيل ما يعرف اليوم باسم «الولايات المتحدة الاميركية»، واذا كانت اميركا اليوم تشعر بأنها باتت مفصولة ومنفصلة عن اصولها وجذورها فمن الاولى ان تشعر بالغربة في عالم لا تنتمي اليه ولا ينتمي اليها، وهو يوما بعد يوم يصر على ان يتمايز عنها على رغم ما تزعم انها تقدمه اليه من خدمات، وما تزعم انها تبذله من اجل تطويره وتنميته، وهكذا تبدو اميركا خاسرة في كل الاتجاهات ما يجعلها تواجه مصيرا اسود يهدد بإسقاطها رمزيا قبل ان تسقط سياسيا وعسكريا
إقرأ أيضا لـ "سيد كامل الهاشمي"العدد 223 - الأربعاء 16 أبريل 2003م الموافق 13 صفر 1424هـ