العدد 2229 - الأحد 12 أكتوبر 2008م الموافق 11 شوال 1429هـ

انهيار اقتصاد البورصة... وأبعاده

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى الآن تبخرت 30 تريليون (30 ألف مليار دولار) من شاشات البورصات العالمية. ورجحت مصادر نقدية أن تستمر موجة التراجع إلى فترة محدودة لتستقر على قعر متوازن لتبدأ بعدها موجة الصعود لمدة ثلاث سنوات يتوقع أن تستعيد الأسهم نشاطها وخسائرها لتصل إلى المكان الذي كانت عليه منذ انفجار الأزمة في سبتمبر/ أيلول 2008.

في العام 2011 ستعود البورصات إلى موقعها الطبيعي لتلعب دورها الموضعي في تصحيح معادلة السوق. فالمعادلة التي تعرضت للانهيار كانت بحاجة إلى آليات السوق لتصحيحها بعد أن تضخمت وفاقت المعدل ولم يعد بالإمكان تحمل صعودها الدائم. وتصحيح السوق لآليات البورصة سيعقبه بعد ثلاث سنوات عودة للبورصة لتبدأ من جديد أخذ موقعها الطبيعي وتتدخل في لعبة تصحيح السوق.

هذا التحليل الذي يخضع لشروط التفكير الرأسمالي يتكرر دائما كل ثماني أو عشر سنوات (عقد من الزمن) حين تشهد أسواق المال (البورصات) خضات نقدية تزعزع استقرارها وتدفع أسهمها إلى فوضى نفسيه (انعدام الثقة والخوف والقلق) تزيد من تفاقم الأزمة إلى أن تتراجع الحرارة وتنخفض إلى معدل طبيعي.

أسئلة يطرحها الاقتصاديون ويختلفون على أجوبتها بعد كل انهيار. لماذا يحدث هذا الاضطراب النفسي كل فترة زمنية؟ ولماذا يتطلب السوق بين دورة وأخرى حركة تصحيح للأسعار توازن بين الصعود والهبوط كل ثماني أو عشر سنوات؟ وأين تذهب هذه الأموال وكيف تختفي ومن أين جاءت؟ ومن هو الخاسر ومن هو الرابح؟ وكيف يمكن تحاشي تكرار الدورة؟ وهل الانهيار مسألة ضرورية للتصحيح ولابد من حصوله حتى يواصل الاقتصاد تقدمه؟

كل هذه الأسئلة تطرح دوريا وتتنوع الإجابات وتتلاشى الدروس والعبر وتتناسى مؤسسات النقد والمصارف الكارثة مع مرور الوقت لتعاود الصعود مجددا وعلى درجة متقدمة عن المرحلة السابقة. فهل هذه الدورة حتمية (قدرية) لا مهرب من تجنبها مهما بذلت الجهود الإرادية وبدلت أنظمة الرقابة والإشراف والقيود؟ فهل المسألة قدرية وفوق إرادة الإنسان وطاقات البشر أم أن قانون الأزمة يمكن التحكم به وتوجيهه نحو الطريق الصحيح قبل حصول الاصطدام المرسوم؟

أسئلة وأجوبة وأجوبة وأسئلة وكلها تختلف في القراءات والتحليلات... وبعدها تستمر الأمور لتتجاوز مرحلة الركود وتقلص النقد وتبدأ من جديد دورة نمو إلى أن تصطدم بالحائط مجددا. وهكذا. وهذا بالضبط ما توقعه مدير صندوق النقد الدولي دومينيك ستروسكان خلال اجتماع عقده وزراء مالية 20 دولة في واشنطن أمس الأول. فالمدير الدولي للصندوق توقع أن تستمر موجة الارتداد وتتراجع بنسبة 20 في المئة إضافية قبل أن تستقر وتعاود مسيرة التصاعد بسرعة بطيئة. وهذا الأمر سيدفع الاقتصاد العالمي إلى الركود ويمكن أن يؤدي إلى انهيار شامل للنظام المالي في حال أحجمت المصارف عن الوفاء بالتزاماتها (التسليف أو حماية الودائع).

المسألة إذا خطيرة في حال لم تتوافق الدول السبع الكبرى على «توحيد العلاج» كما قال الرئيس الأميركي جورج بوش في خطاب ألقاه بالمناسبة. وتوحيد العلاج فرضية نظرية تحتاج إلى تقريب مصالح الدول الكبرى وربطها عالميا في برنامج موحد يسهل عمليا الخطوات الميدانية. وعملية المقاربة المطلوبة تتطلب موضوعيا دفع النظام المالي درجة أعلى نحو التدويل وزيادة جرعات العولمة المالية.

حركة التصحيح المطلوبة مطروحة من داخل إطار الأزمة وهي تنحصر في النظام الرأسمالي المتوافق عليه دوليا. والوصفات التي تقدم بها الوزراء للعلاج تتناسب مع الأزمة الدورية للرأسمالية. فالحلول رأسمالية والتصحيح رأسمالي حتى لو اقتضى الأمر إجراء تعديلات «اشتراكية» تشرك الدولة (القطاع العام) في معالجة الأزمة. وحين يكون المرض رأسماليا والعلاج رأسماليا إذا لا مجال لعودة تلك الفرضيات التي غابت عن السوق وسحبت من التداول بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي.

السوق يصحح السوق. والرأسمالية تنقذ الرأسمالية. والمال يسترد المال... حتى لو أدت موجة الارتداد إلى تبخر 40 تريليون دولار كما تتوقع مصادر صندوق النقد الدولي. فالرأسمالية في النهاية موجودة ولا يمكن الاستغناء عنها في عالم تتنافس على أسواقه الدول الكبرى وتتحكم بثروته النقدية بورصات المال.

أزمة الأغنياء

هذه الاستنتاجات يمكن استخلاصها من كل تلك الأسئلة والأجوبة التي تداولها الاقتصاديون في تحليلاتهم بشأن الأزمة الجارية التي عصفت بالعالم. ولكن تبقى هناك قراءات أخرى يمكن أخذها في الاعتبار والتعامل معها باحترام من نوع من أين تأتي هذه الثروات «التريليونية» وأين تذهب وكيف تتبخر فجأة وتعود بهدوء لتلعب اللعبة نفسها؟

جواب هذا هو قدر الرأسمالية المحتوم لا يكفي للإقناع، ولابد من وجود مؤشرات تدل على ثغرات (ثقوب) تتسرب منها الأموال الفائضة (أو السائبة) وتتسلل إلى مواقع أو صناديق «خفية» وأرقام سرية ثم تعاود الظهور بعد تراجع العاصفة. فالكلام الذي يتوقع أن تتبخر أكثر من 40 ألف مليار دولار من شاشات البورصة في أقل من شهرين مسألة تحتاج إلى أجوبة ذكية ومقنعة. ولا يكفي أن يقال إن الرأسمالية تعالج الرأسمالية.

مثلا هل هذه الثروات النقدية وهمية، وهي موجودة بالاسم وغير متوافرة فعلا؟ وهل الأزمة «أزمة أغنياء» فقط وأن الفقراء لاعلاقة لهم بالموضوع ولا شأن لهم بالبورصة إذا ارتفعت أسعار أسهمها أو انخفضت؟ وما هو الحد الاقتصادي الذي يفصل بين الثروة الحقيقية والثروة الوهمية؟ وما هي علاقة الإنتاج البضاعي (السلع) بالدورة المالية؟ وهل الاقتصاد (الإنتاج) مسألة مستقلة عن اقتصاد النقد، فالأول واقعي والثاني وهمي؟ وهل هناك درجات من الرأسمالية تعيد هيكلة أشكالها وفق تراتبية مستقلة ومنعزلة عن بعضها؟ وهل الرأسمالية المالية (البورصة) تختلف في آلياتها عن المصرفية، عن الصناعية (المنتجة)، عن العقارية، عن السوق (تداول البضاعة بالنقد) وعن غيرها من قطاعات استثمارية واستهلاكية وريعية (تجارية) وعن توظيفات لاستخراج الثروات الطبيعية والمعدنية والخامات من باطن الأرض؟

كل هذه «الرأسماليات» هي فعلا قطاعات رأسمالية ولكنها في جوهرها متضاربة في مهماتها وغير موحدة في آلياتها. قد يكون هناك رأسمالية لا يمكن الاستغناء عنها لأنها تتصل بقانون السوق (تداول النقد والبضاعة) وتلبي حاجات البشر الضرورية. وربما تكون هناك رأسمالية فائضة عن السوق ويمكن الاستغناء عنها لفترة محدودة لأنها مرتبطة بحاجات البشر الكمالية (الرفاهية، الترف، البذخ، الطمع، الجشع، الاحتكار، ادخار المال وتجميعه... إلى آخره). وهذا النوع من الرأسمالية الفائضة (المال ينتج المال) يلعب الدور التضخمي ويصنع ثروات وهمية تظهر تباعا على شاشات البورصة وتختفي فجأة لتسقط معها التريليونات جارفة معها أسعار الأسهم إلى قعر احتمالي تستقر عليه لتعاود الصعود مجددا في مغامرة هي أقرب إلى المقامرة.

أزمة البورصة هي في التحليل المنطقي أزمة الأغنياء (أفرادا، شركات، مؤسسات نقد، مصارف) ولاعلاقة للفقراء بها. حتى الدول (معظم إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية) لم تنتبه للأزمة لكون بعض تلك الدول لا تمتلك بورصات ولا تتعامل معها ولا تعرف ما هو قانونها وما هي الآليات التي تتحكم بصعودها وهبوطها. فهذه الدول لاتزال في طور الاقتصاد الطبيعي ولم تتقدم خطوة باتجاه الاقتصاد المنتج (البضاعي) حتى تصل إلى درجة الاقتصاد المصرفي ثم الاقتصاد المالي (البورصة). وبهذا المعنى يمكن وصف انهيار النقد العالمي بأنه محاولة لتصحيح التوازن المالي بين الأغنياء. وأزمة الأغنياء التي تحصل في البورصة دوريا تسقط معها الغني الضعيف وترفع مكانه الغني القوي. وهذا الأمر أشارت إليه دراسة صدرت عن الأمم المتحدة في العام 2006 حين ذكرت تلك الأرقام المؤلمة عن سوء توزيع الثروة في العالم. فهذه «التريليونات» تشبه الأرقام الفلكية ويحتكرها 2 في المئة من سكان الأرض، أما 98 في المئة فهم مجرد شهود على صعود ألوان البورصة وهبوطها. نصف سكان العالم يعيشون من نسبة 1 في المئة من ثروته، والنصف الآخر يتراتب اجتماعيا وتتفاوت مداخيل طبقاته لتتوقف عند حدود استهلاك نسبة 48 في المئة لتستقر تلك الفوائض المالية المجمعة من كل الأمكنة والجهات ضمن دائرة ضيقة لا تتعدى نسبة 2 في المئة.

انهيار اقتصاد البورصات تحول إلى دورة عالمية تحصل بمعدل مرة كل عقد وهي تضرب في مجملها ثروات الأغنياء. ولكن «أزمة الأغنياء» في التحليل الواقعي تهدد الفقراء أيضا وتعطل طموح الطبقات الوسطى وأصحاب الدخل المحدود في تحقيق التقدم الاجتماعي وتحسين مستوى الحياة اليومية وتطويرها نحو الحد الأدنى من الرخاء المتوازن. إذا فالأزمة عالمية حتى لو زعزعت عواصفها دائرة ضيقة... فالموجات الكبيرة لا توفر في امتداداتها تلك البيوت الفقيرة الآيلة للسقوط.

هناك أسئلة كثيرة طرحت بمناسبة «أزمة الأغنياء» والأجوبة التي تدوالها وزراء مالية الدول الكبرى في اجتماع واشنطن أمس الأول لم تكن كافية وبعضها ليس مقنعا بشأن «توحيد العلاج». فالعلاج الموحد يتطلب الحد الأدنى من التقارب في الأمراض. وبما أن المرض غير متشابه في أسبابه وأعراضه فمن المتوقع أن تكون الأدوية غير كافية أو غير مقنعة للعلاج.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2229 - الأحد 12 أكتوبر 2008م الموافق 11 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً