العدد 2226 - الخميس 09 أكتوبر 2008م الموافق 08 شوال 1429هـ

نحو مقاربة بين المنهج الفكري ومهنة الفيلسوف

الفلسفة الإسلامية وتاريخها (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

محاولات تأريخ تطور الفلسفة الإسلامية تحتاج إلى قراءة تأخذ في الاعتبار ظروف الفيلسوف السياسية وسيرته الشخصية وعلاقته بالسلطة والفضاءات الفكرية/ الثقافية التي أحاطت به.

فكل هذه العناصر تكشف مجتمعة الوقائع الموضوعية التي أسست الأفكار وساهمت في توليد قناعات الفيلسوف الذاتية. فالكتابة ليست مجرد سرد للنصوص وإنما نتاج مركب من مواد أولية قام المفكر بإعادة تصنيعها حتى تتجانس مع منهجه وحياته ورؤيته. والنص الذي يكتبه الفيلسوف لا يمكن أن يأتي من فراغ وخصوصا إذا كان كاتبه يتميز بتلك القدرة العقلية التي تتطلب أخذ مسافة زمنية عن الأجيال التي سبقته. كذلك لا يمكن تجريد النص من الموقع الاجتماعي/ السياسي الذي ينتمي إليه كاتبه والمهنة التي يحترفها لكسب المعاش وتأمين قوته اليومي. فالفيلسوف لا يستطيع أن يتفلسف وهو جائع أو غير قادر على ضمان ذاك التوازن المطلوب بين العمل والعلم.

كل هذه العناصر الموضوعية مطلوبة، وهي في مجموعها تشكل تلك الشروط التي لابد من توافرها حتى يقوم الفيلسوف بوظيفته في الكلام والتحليل والتشريح والتركيب والتوليف. وبما أن شرط الكتابة محكوم بالظروف الخارجية والذاتية تصبح الكتابة نفسها خاضعة لتلك الشروط وهذا ما يؤدي إلى توفير فرص التمايز والاختلاف والتميز بين فيلسوف وآخر في عصر واحد.

هناك عوامل كثيرة تلعب دورها في تشكيل المنظومة الفكرية للفيلسوف. والمنظومة التي يتوصل إليها لا يمكن عزلها عن بيئتها وتجريدها عن الواقع لأن الفكرة في النهاية مصنوعة من عناصر مركبة (روافد ثقافية) تتحكم في توفيرها أو إنتاجها مجموعة عوامل تبدأ بظروف المكان والزمان وطبيعة السلطة وسيرة الكاتب وأصوله ومهنته وتأثير حرفة المعاش على سلوكه وتفكيره.

فلاسفة المعتزلة لا يمكن عزل أنشطتهم السياسية والفكرية عن المحيط الاجتماعي والسلطة والانتماء والسيرة الشخصية وطبيعة المهنة. وأسماء فلاسفة الاعتزال تعكس دلالات ترمز إلى المحيط أو المهنة أو البيئة الثقافية. فالعلاف أو النظام أو الخياط كلها أسماء تشير إلى الوظيفة والحرفة والمكان والانتماء (موالي). ومجموع تلك الأصول ساهمت في التأثير على شخصية الفيلسوف وسلوكه ولعبت من دون وعي في تشكيل منظومته الفكرية ورؤيته للدين والدنيا.

القياس نفسه يمكن تطبيقه على الفلاسفة المسلمين. فالأفكار التي قال بها تيار الفلسفة ارتبطت في النهاية بمجموعة مؤثرات ربطت بين الحاجة والوظيفة وأنتجت منظومة من النصوص حاولت الإجابة عن أسئلة العصر الذي يحيط بهذا الفيلسوف أو ذاك.

الكندي (محمد بن إسحق) عاصر المعتزلة والشطر الأول من الخلافة العباسية. فهو ابن قبيلة عربية أصيلة ووالده تعامل مع السلطة وتبوأ مواقع مهمة (والي) ما وفر له فرصة للرعاية الاجتماعية وتحصيل العلوم وأخذ وظيفة (مشرف على التدقيق اللغوي في قسم الترجمة). الظروف والانتماء (العصبية القبلية) والمهنة والموقع كلها شروط أعطت الكندي تلك المتطلبات التي يحتاجها للسجال والنقاش والتأليف.

سيرة الكندي وحرفته واتصاله بالسلطة اجتمعت كلها لتشكل منظومة علاقات سهلت عليه إمكانات تصريف طاقاته وإعادة تركيبها في قنوات فكرية استفادت من وظيفته وموقعه. فالكندي اللغوي (أستاذ في علم الصرف والنحو) وعالم الرياضيات استخدم المنطق الرياضي (علم العدد) في ترتيب فلسفته وتنظيم نسقها الهرمي من الأعلى الواحد إلى الأدنى التكاثر وصولا إلى «تأليه العقل» والدعوة نحو المصالحة بين الشريعة والحكمة. وهي دعوة اشتغل عليها لاحقا تيار الفلاسفة من بغداد إلى قرطبة (الأندلس).

الرازي (ابوبكر محمد بن زكريا) أيضا لعبت ظروفه وبيئته ومهنته دورها في تشكيل وعيه الفلسفي وترتيب منظومته الفكرية (سرد النصوص). فالرازي جاء بغداد من بلاد فارس وتعلم الطب وامتهن الطبابة واتصل بالسلطة وأشرف على إدارة مستشفى. وبسبب اختلاف بيئة الرازي عن سيرة الكندي وظروفه ومهنته جاءت منظومته الفكرية متخالفة في نسقها الفلسفي عن نصوص الكندي. الرازي يكره الرياضيات وليس عربيا ويحترف مهنة الطب ما أدى به إلى البحث عن منهجية تتناسب مع طبيعة عمله. وبما أن حقل الرازي أقرب إلى الكيماويات ولا صلة له بالأرقام (علم العدد) اتجهت فلسفته إلى صناعة الأفكار من خلال مزج المواد الأولية وتحويلها من هيئة إلى أخرى.

لعبت مهنة الرازي (الطب والكيمياء) دورها في التأثير على المتصوفة (الحلاج مثلا) حين اعتمد بعض رموزهم فكرة التحويل الكيماوي (تغيير طبيعة المعادن) إلى منهجية فلسفية روحية تقول بالحلولية وتحويل الجسد وتطويعه للانتقال من هيئة إلى أخرى.

سيرة الفارابي (أبوالنصر محمد بن طرفان بن أوزلغ) وظروفه وبيئته ومعاشه ومهنته تختلف عن الكندي والرازي. فالفارابي ولد في بيت أسرة فقيرة في فاراب من أبٍ تركي وأم فارسية. وساهم المنشأ في توليد ثنائيات لعبت دورها لاحقا في تكوين شخصيته وتوليف منظومته الفكرية. وحين قرر ابن فاراب الارتحال إلى بغداد كان بلغ الأربعين من عمره فتعلم العربية في سن شارفت الكهولة وأعاد تأسيس حياته في ظروف سياسية اتسمت بالاضطراب والانقسام ونشوء دويلات (الدولة الحمدانية) على ضفاف المركز (الخلافة العباسية).

إلى هذه العوامل الموضوعية والذاتية جاءت مهنة الفارابي لتلعب دورها في تنظيم نصوصه وسردها في إطار التوليف والجمع بين التعارضات. حرفة الفارابي كانت الموسيقى فاخترع آلة «القانون» التي اتخذها وسيلة للمعاش وتسلية الندماء إلى جانب عمله الفكري ومشروعه الفلسفي. وبسبب موقعه الوظيفي كتب موسوعة في الموسيقى (الرازي ألف موسوعة في الطب) ومنها انتقل للبحث الفلسفي الذي اتسم بالتوليف وتركيب التناقضات ما أدى إلى ترتيب أفكاره وفق منظومة تشبه كثيرا طبيعة عمله. فالموسيقى تبحث عن التناغم (تجانس النوطات) وهذا ما ظهر بقوة حين تخيل مدينته «الفاضلة» وتمايزها التكويني عن طبيعة المدن الأخرى. وكتاب الفارابي عن «المدينة» الذي جاء يرد على حاجة موضعية نهضت خلال فترة عمل الحمدانيين على تأسيس «دولة مستقلة» في حلب تشابه في تراتبه وتخيله للدولة كثيرا مع مهنته ووظيفته ومعاشه.

بين التوليف والتشريح

سيرة الفارابي (التوليفية) تتعارض كثيرا مع سيرة ابن سينا وبيئته وظروفه ومهنته. فالشيخ الرئيس ولد في بيت أسرة فارسية ثرية. والده وزير دولة وغني ومثقف وكان على علاقة مع كبار الشخصيات الفكرية والسياسية وديوانه كان محط أنظار العلماء والمتجولين وبعض أصحاب النظريات الخاصة (الدعوة الإسماعيلية). وبسبب هذه البيئة نشأ ابن سينا في ظروف اجتماعية مريحة أعطته فرصة للتعلم والنبوغ المبكر واحتلال مكانة بارزة في محيطه. فالابن تتلمذ على الفكر والفلسفة وتعلم الطب وبرع في مهنته واخترع أدوات تساعده على التشريح ما جعله يأخذ موقعه الخاص في الدولة (وزير) ويحترف الفلسفة إلى جانب الطبابة.

لعبت ظروف ابن سينا في تسهيل حياته فتبوأ المناصب التي وفرت عليه التفكير بالمغادرة والارتحال إلى بغداد. كذلك ساعدته مهنته (ألف موسوعة في الطب) في تشكيل منهجية تعتمد التحليل والتفكيك (التشريح) في قراءة المنظومات الفلسفية وإعادة توليفها بأسلوب مغاير عن الفارابي.

حياة ابن سينا المريحة لم تتوافر للشاعر الفيلسوف المعري (أبوالعلاء). فالشاعر ولد في بيئة ثقافية مختلفة (معرة النعمان في بلاد الشام) ومن عائلة متواضعة اجتماعيا ومتدينة تنتمي إلى القبيلة التنوخية العربية. وساهم هذا التكوين الاجتماعي /الثقافي/ القبلي في تركيب صورة متعارضة في شخصية الشاعر المتمرد الذي أصيب بمرض وهو في سن الرابعة أدى إلى دخوله العتمة باكرا. فالطفل الضرير عاش حياة متقلبة زادت من اضطرابها تلك الظروف السياسية التي عايشها في حياته ما دفعه إلى اتخاذ قرار العزلة عن المحيط تاركا مخيلته تعوض ما فاته من نور. فأفكار المعري الشعرية تأثرت بشخصيته وظروفه الخاصة وأسلوب معيشته وحياته التي اتسمت بالتقشف والقلق والغضب. وجاءت فلسفة المعري المشبعة بالثقافة منسجمة مع روحه المستقلة ورؤيته للعالم الفوقي من خلال عقل اعتمد على الذاكرة والقدرة على تصنيع المتخيل وتجسيمه بالصور الرمزية.

شخصية المعري الخاصة (الشاعر الضرير) لعبت وظائفها المستقلة في تكوين منهجية فلسفية تنسجم مع ظروفه وتختلف في طبيعتها عن سيرة الكندي (لغوي وعالم رياضيات) ومهنة الرازي (طبيب وعالم كيمياء) وحياة الفارابي (الفقير والموسيقي) وابن سينا (الطبيب الوزير ابن الوزير). فالمعري انكفأ إلى عالمه الداخلي الخاص ليعوض ضعف اتصاله بالمحيط والعالم الخارجي وهذا ما دفعه إلى الانزواء واستخدام مخيلته لترسيم خريطة تشير إلى صور مختلفة عن هيئة الطبقات العلوية في الدنيا والآخرة.

ظروف الغزالي (أبوحامد) تختلف في بيئتها الثقافية وصيرورتها السياسية عن عوالم الكندي والرازي والفارابي وابن سينا والمعري. فالغزالي ولد في بيت فقير يمتهن والده حياكة الصوف ويخدم في مجالس العلماء. فهذا الإمام (جامع العلوم) عاش في كنف دولة السلاجقة التي نهضت على أنقاض دولة بني بويه في بغداد. وساهم الاختلاف في طبيعة السلطة في توليد وظائف عملية تركت آثارها المنهجية على فلسفة الغزالي. فالطفل ورث عن والده مهنة الحياكة وتربية اتصفت بالصمت والأمانة وعدم نقل ما يقال في مجالس الفقهاء والشيوخ. وازدادت حياته صعوبة حين توفي والده باكرا وتركه مع شقيقه في عهدة رجل صوفي فقير ومتقشف في حياته. رعى صديق والده تربية الطفلين إلى فترة ثم نقلهما إلى مدرسة أيتام للعناية بهما.

شب الغزالي في كنف مؤسسات الدولة ورعايتها وهذا ما ترك تأثيره النفسي على وعيه وتراتب منظومة أفكاره الفلسفية لاحقا. فالغزالي ولد في طوس (خراسان) ونال علومه من جهات مختلفة البيئات والثقافات في جرحان ونيسابور. وهناك عاصر ولادة المؤسسات الرسمية للتدريس فتعلم بها ثم انتدبه نظام الملك للتعليم في نظامية بغداد.

اتصال الغزالي بالسلطة السلجوقية وامتهانه حرفة التدريس في مؤسسات الدولة التعليمية رسخت في ذهنه قناعات مرحلة طفولته وإشراف دوائر الدولة الرسمية على تدبير أموره ورعايتها وثم تعليمه وتدريبه على خدمة السلطة. وتصادفت فترة تدريس الغزالي في نظامية بغداد مع ظروف سياسية صعبة اتسمت بالعنف والاضطرابات والاغتيالات (فرق الحشاشين) ما دفعه إلى مغادرة بغداد وترك وظيفة التعليم والانكفاء إلى عالم منغلق ينسجم مع طفولته الأولى (بيئة صوفية متقشفة) تقارب تلك الصور البسيطة والبريئة التي تربى عليها. فالطفولة تمزج بين الطاعة والخوف (الرهبة) وهي تطورت مع نمو شخصية الغزالي حتى حين بلغ مواقع متقدمة في العلوم والوظيفة. مهنة القدريس في نظامية بغداد تركت تأثيرها في تشكيل منهجية تعليمية في فلسفة الغزالي. فالحياكة والأمانة والولاء والاعتراف بأهمية مؤسسات الدولة ودورها في تربية اليتامى ورعاية المشردين أنتجت رؤية جامعة تولف بين التصوف العقلاني ومدارس الفقه ما شجعه على تأسيس منهجية تركيبية اعتمدت أصول الشريعة لتأصيل فلسفة دعت إلى نهضة الأمة والدفاع عن دولتها الضامنة لوحدتها تحت سقف «إحياء علوم الدين».

مشروع الإحياء الذي أسسه الغزالي فقهيا وفلسفيا ينسجم كثيرا مع مهنته (التدريس) وبيئته الثقافية وظروفه السياسية التي عايشت الاغتيالات وعاصرت بدء الحملة الأولى للفرنجة وسقوط القدس. فكل هذه العوامل مجتمعة ساهمت في تأسيس قواعد فلسفة الغزالي وأصولها الفقهية الطامحة إلى توليد نهضة تنقذ الأمة من الانهيار والتفكك وضياع الهوية.

كل هذه الأمثلة والنماذج الشخصية تؤكد أهمية قراءة الظروف والبيئات والسير والمهن وطبيعة السلطة للتعرف على الهوية الفكرية للفلسفة والعوامل الموضوعية والذاتية التي ساهمت في صنعها وتوليفها من خلال حياة فيلسوف وتوظيف مهنته في مجال الفلسفة. فالمنظومة الفكرية لا تأتي من فراغ وإنما تتراكم معرفيا وعمرانيا في سياقات مختلفة أو متناغمة لتنتهي مجموع تلك الروافد في تحديد وظائف خاصة ومستقلة تميزت بها الفلسفة الإسلامية في تاريخها المديد.

الفلاسفة المسلمون هم نتاج تطور واتصال حلقات الفكر في عصورهم تداخلت في محيط اتسم بنمو مجاله الحيوي ما أملى على المفكرين تحديد وظيفة للفلسفة اجتهدت زمنيا لمنع التعارض بينها وبين الشريعة، ولكن مهمة التوفيق فشلت في النهاية حتى حين انتقلت مدارس الحكمة من المشرق إلى المغرب.

الفشل لا يلغي تشابه القانون وتقاربه على رغم اختلاف بيئة الأندلس عن بغداد والشام وفارس. فالقياس في المشرق يمكن اعتماده في المغرب وتطبيقه على المناهج الفقهية والفلسفية في الأندلس. وظروف المكان والزمان والسيرة والمهنة والوظيفة وطبيعة السلطة التي عاشها فقهاء وفلاسفة المشرق أسست مجموعة حاجات ووظائف لا تختلف عن تلك التي عاصرت ابن حزم وصاعد الأندلسي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد وابن عربي في المغرب.

القراءة في النهاية موحدة في قوانينها وهذا ما يتطلب إعادة البحث عن المشترك لفهم تاريخ تطور الفلسفة الإسلامية والشروط التي تحكمت في إنتاجها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2226 - الخميس 09 أكتوبر 2008م الموافق 08 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً