ماذا يمكن لكاتب أن يقول بعد هذا الغياب عن الصحافة وعن جمهور القراء الذي داوم على متابعة مقالته الأسبوعية؟ كان هذا السؤال ملحّا عليّ وخاصة حين عزمت على قطع غيبتي عن الكتابة في الصحافة.
مضى الآن على توقفي عن الكتابة عام كامل، وكنت أتصور، كما كان الآخرون كذلك، أن هذه الغيبة سيكون لها مردود سلبي على نشاطي في الكتابة وعلى متابعة القراء المنتظمة لكتابتي. أحد الأصدقاء الصحافيين لم يتردد في نصحي - وبلهجة تحذيرية - بأن التوقف عن الكتابة في هذه اللحظة هو خطأ كبير، والسبب أن جمهور القراء الذي ظل يحرص على متابعة مقالتي الأسبوعية قد ازداد بتأثير التحفظ الذي أعلنته إدارة المطبوعات والنشر بحق كتابي الأخير «استعمالات الذاكرة». وبحسب قراءة هذا الصديق فإن توقفي عن الكتابة في تلك اللحظة لا يمكن أن يفهم إلا على أنه قرار خاطئ وخسارة كبيرة.
إلا أن المقام الطويل في هذا الغياب أتاح لي الفرصة للتأمل في هذا السؤال، ووصلت الآن إلى تقييم مختلف لما جرى، حيث أتصور الآن أن التوقف عن الكتابة كان قرارا صائبا، وأنه كان الحل الأنسب بالنسبة لي، لا من أجل التقاط الأنفاس فحسب، بل من أجل إتاحة الفرصة لي لتقييم ما كتبته وللتدبّر في ذلك الجَدَل الذي فتحته تلك الحفريات المركزة على حقل ملغّم بقضايا محلية وإشكالية ومستفزة ومختلف عليها باستمرار. كما أني لم أكن من ذلك النوع من الكتاب الذين يشعرون بأن عليهم أن يجدوا موضوعا لمقالتهم بأي ثمن، وفي الغالب ما يدفع القراء هذا الثمن من خلال إضاعة الوقت في مطالعة كلام «فارغ» لا قيمة له، ولا محصلة من ورائه.
حين يكون المرء منهمكا في الكتابة بحرارة متقدة يزيد من التهابها حماسة بعض القراء لها وامتعاض الآخرين منها، فإن مثل هذا الكاتب عادة ما يبتلى بداء التصلب العنيد والاندفاع الأعمى في مواصلة كتابته دون أن يمنح نفسه فرصة للمراجعة والتقييم الذاتيين، والسبب أن المرء في هكذا حالة عادة ما يكون واقعا في قبضة ذلك الوهم الكاذب الذي يقول: «إذا أثارت مقالاتك كل هذا الجدل فالمطلوب أن تكثر منها وأن تستمر في هذا النهج». في حين أن قيمة الكتابة لا تكمن في قدرتها على إثارة الجَدَل لأن أي كاتب يستطيع أن يثير الجَدَل والبلبلة بين الناس إذا ما عمد إلى الكتابة عن قضايا حسّاسة ومثيرة وصادمة، والحق أن الكاتب مهما كان رديئا فإنه سيكون قادرا على إثارة الجَدَل حين يتطرق إلى هذه القضايا. وفي بلد مثل البحرين هناك من القضايا المثيرة والحساسة والصادمة ما يكفي لتجعل من كاتب رديء أفضل كاتب صحافي في البحرين!
والحال أنني أجد نفسي مدفوعا إلى القول إن التوقف المؤقت عن الكتابة هو أفضل شفاء للكاتب لا حين يصاب بالخواء أو بحبسة الكتابة وبداء العُجب بكتابته فحسب، بل حين يصل إلى قناعة بأنه عاجز عن وقف العلاقة الجهنمية بين كتابته الاستفزازية من جهة، وقدرتها على إثارة الجَدَل والبلبلة من جهة أخرى. ومع هذا، فإني اكتشفت أن كتاباتي السابقة كانت مستفزة لكثيرين ينتمون إلى انتماءات متباينة، وتحركهم دوافع متعارضة قوية. بالطبع كان ثمة استجابات مستفَزة نابعة من سوء فهم أو لبس حاصل بسبب الكتابة المتسلسلة الطويلة عبر الصحافة، ففي الصحافة تحضر المقالة كنص قائم بذاته بعيدا عن سياقه النصوصي الممتد قبله وبعده. وفي هذه الحال تصبح مطالبة القارئ بأن يرجئ حكمه على المقالة لغاية اكتمال السلسلة مطالبة في غير محلها، وهي بمثابة إلزام القارئ بما لا يلزم في عالم الصحافة. والحق أن هذه واحدة من المعضلات التي واجهتني طوال الفترة الماضية، وأظنها ستعترض طريقي في هذه المرة أيضا؛ لأني عازم على الشروع في كتابة ممتدة بحيث تصبح المقالة الأسبوعية حلقة في سلسلة لا يكتمل معناها إلا بانتظامها معا.
أعود إلى اللبس الذي حصل في كتاباتي السابقة التي جمعت في كتاب وصدر أوائل هذا العام تحت عنوان: «استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ». كثيرون التبس عليهم مغزى الكتاب، فتصوروا أنه «كتاب تاريخي». آخرون توهموا أنه كتاب غايته الانتصار لتاريخ جماعة معينة على حساب أخرى. والحال أن «استعمالات الذاكرة» لم يكن لا هذا ولا ذاك، بل هو كتاب نقدي ضد الاختزال الذي يمارس على الإنسان، أو يمارسه الإنسان على نفسه، بحيث يجري تقليص وجوده الغني والكثيف والمتنوع إلى مجرد كونه نتاج هذا «الحدث» التاريخي المفرد أو ضحيته. وبمعنى أوضح، فإنه لا يجوز للمرء أن يختزل وجوده الغني بتنوعه في كونه بطل «حدث الفتح» فقط، أو في كونه مجرد ضحية هذا «الفتح» فقط. فالإنسان أكبر من أن يبقى حبيس حدث مفرد يلتصق به مرة واحدة وإلى الأبد. مقاومة هذا النوع من الاختزال والتقليص هي مطلب كتاب «استعمالات الذاكرة»، وما كان يشغلني آنذاك سوى القيام بنقد أفاعيله السلبية وعواقبه المؤذية للجميع.
ولا يمكن لمثل هذا النقد أن يوجد إلا بصورة مزدوجة، فهو بالدرجة الأولى ينبغي أن يتوجه إلى الدولة، لأن من حق الناس أن تتذكر كما تريد، ومن حقها أن تتمتع بحرية الاختيار بين النسخ الممكنة في تاريخها الجماعي. ليس من حق الدولة ولا هو من واجباتها أن تنتخب للناس ذاكرة رسمية وتفرضها عليهم بالطيب أو بالقوة، فكما أنه ليس من حق الدولة أن تلزم الناس بدين معين أو بأيديولوجيا معينة، فكذلك ليس من حقها أن تلزمهم برواية مفردة لتاريخهم، ليس لأن رواية التاريخ وتأويله نشاط لا ينتهي، ومفتوح للقراءات المتعددة والمتعارضة فحسب، بل لأن مثل هذا الإلزام يعد تجاوزا للصلاحيات من قبل الدولة، وهو حشر لأنف الدولة فيما لا يعنيها.
هذه خطوة مهمة لتأصيل حق التذكّر وحرية ممارسته، وهذا يعني أنني ما كنت أكنّ عداء صميميا للذاكرة والتذكر. إلا أن الدفاع عن هذا النوع من «الحرية السلبية» في وجه «تدخّل الدولة» لا يعني أن من حق الجماعات أن تختزل وجود أفرادها في رواية مفردة للتاريخ، وفي أنهم ضحايا هذا الحدث أو أبطاله فقط. فإذا كان من حق الناس أن تتذكر فإن من حقها أن تنسى كذلك. وإذا كانت حرية التذكر حق أصيل لكل فرد فإن حرية النسيان أيضا حق أصيل لكل فرد سواء بسواء.
والخلاصة أنه ليس المهم أن نتذكر أو ننسى؛ لأن التذكر والنسيان فعاليتان ينبغي أن تكونا متاحتين أمامنا بحرية متساوية، بل المهم ألاّ نسمح باختزال وجودنا وتقليصه بأي شكل من الأشكال، ومن أية جهة جاء هذا الاختزال: من قبل الدولة أم من قبل الجماعة التي ننتمي إليها.
وعلى رغم هذا فإن النسيان - وكذا يفعل التذكر الحرّ بعيدا عن سلطة الدولة والجماعة - يساعد على مقاومة ضرب عنيد من ضروب الاختزال سيكون هو موضوع تركيزنا في هذه السلسلة الجديدة من المقالات، وهذا النوع من الاختزال هو اختزال الإنسان في انتمائه الجماعي وهويته الثقافية التي يجري تصويرها على أنها قدر المرء الحتمي ومصيره الذي لا مهرب له منه.
يسمح النسيان للمرء أن يبقى «خارج الجماعة». و»خارج الجماعة» ليس موقعا محمودا بالضرورة، إلا أنه يتيح الفرصة لكل واحد منا لا ليكتشف ذلك المجال التعددي الذي ينطوي على تلك الكثرة الكاثرة من الهويات والانتماءات الجماعية لدى كل واحد منا، بل ليعي حقيقة أنه ليس مضطرا إلى أن يختزل وجوده في أي من هذه الانتماءات والارتباطات مهما كانت متعددة.
حين يجد المرء نفسه في مجتمع محكوم بانتماءات جماعية دينية أو قومية أو سياسية أو ما شابه ذلك، فإنه يتصور أن انتماءه الجماعي هو قدر حتمي لا مهرب له منه، وأن الوجود، عندئذ، لا يعني أكثر من أن يكون المرء يهوديّا أو مسيحيا أو مسلما، شيعيّا أو سنيّا أو إباضيّا، عربيّا أو كرديّا أو تركمانيّا. في حين أن هذا اختزال صرف لوجودنا كبشر، وهو تقليص للمجال التعددي الذي تنطوي عليه هوية كل واحد منا. ولهذا فإن المغيّب في هذا النوع من الاختزال هو تلك الحقيقة التي تقول إن هذا اليهودي - وكذا الشأن مع الآخرين - ليس بالضرورة رجلا، فلربما كانت امرأة سوداء تنتمي إلى يهود الفلاشاه، وتتحدث الأمهرية مع بعض الكلمات العبرية المنطوقة بلكنة مضحكة، وهاجرت إلى «إسرائيل» في العام 1984 ضمن هجرة جماعية شملت 12 ألف من يهود الفلاشاه المقيمين في أثيوبيا، وتنتمي إلى الطبقة الفقيرة في المجتمع الإسرائيلي، وتعاني من مشكلة التمييز العنصري من قبل اليهود البيض. وقد يكون لدى هذه المرأة ميول جنسية مثلية، وربما اكتشفت مؤخرا أنها مصابة بمرض الإيدز مما جعلها تنضم إلى جماعة خيرية لمساعدة مرضى الإيدز، وهكذا. فأي هذه الانتماءات أو الارتباطات هي أولى بالرعاية بالنسبة إلى هذه المرأة؟ هل الانتماء إلى الجنس فتكون المرأة نسوية تطالب بحقوق النساء، أم إلى الطبقة، أم إلى الديانة، أم إلى المهنة، أم إلى العرق، أم إلى الميول الجنسية، أم إلى الارتباطات المدنية؟ يمكن لهذه المرأة أن تجد نفسها واقعة بين خيارات صعبة ومتعارضة تفرضها هذه الانتماءات المتعددة، إلا أنها، من جهة أخرى، يمكن أن تعيش حياتها بصورة عادية ومن دون أي تناقض بين هذه الانتماءات المتعددة، وهو ما يجعلنا نشكك في مشروعية اختزال وجودها وانتماءاتها المتعددة في كونها «يهودية» فقط.
ربما كان هذا المثال أكثر تعقيدا من مثال مارسيل غوشيه، المفكر الفرنسي، الذي يدور حول رجل يزعم أنه «بروتستانتي»، ومن منطقة «البريتان»، و»شاذ جنسيّا»، إلا أنه مثال أكثر بساطة من ذلك المثال المدوّخ الذي صاغها أمارتيا صن، عالم الاقتصاد الهندي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 1998، في مفتتح كتابه «الهوية والعنف» (2006)، حيث يمكن للمرء نفسه أن يكون، ودون أي تناقض، «مواطنا أميركيّا، من أصل كاريبي، وينحدر من أسلاف أفارقة، ومسيحيّا، وليبراليّا، وامرأة أو رجلا، ونباتيّا، وعدّاء للمسافات الطويلة، ومؤرخا، ومعلما، وروائيّا، ومناصرا لقضايا المرأة، وطبيعيّا في علاقته بالجنس الآخر، ومؤمنا بحقوق المثليين، ومحبا للمسرح، ومناضلا من أجل قضايا البيئة، ومشجعا للعبة التنس، وعازفا لموسيقى الجاز، وشديد الإيمان بالرأي الذي يقول إن هناك مخلوقات ذكية في الفضاء الخارجي»!
وبعيدا عن بساطة المثال أو تعقيده، فإن هذا التعدد في الانتماء هو الذي يكوّن شخصية كل واحد منَّا، وهو المقصود بتصفيته في المحاولات المتعصبة التي تستهدف اختزال تعدديتنا الغنية في انتماء أحادي لا شريك له، وإلزامي دون أي اختيار.
إن مقاومة هذا النوع من الاختزال هي موضوعنا في هذه السلسلة من المقالات، ولهذا ستواجهنا المعضلة ذاتها التي اعترضتنا في المرة السابقة، فالمطالبة بالحرية السلبية ضد «تدخل الدولة» تعني أن من حق المرء أن ينتمي إلى الجماعة التي يريدها ويطمئن إليها، وتعني كذلك أن من حق المرء أن يبقى «خارج الجماعة» بحيث لا ينتمي إلى أية جماعة، كما أن من حقه أن يتعامل مع انتمائه الثقافي بمرونة تسمح له بالانتماء إلى أكثر من جماعة في الوقت ذاته، ومن حقه كذلك أن يقاوم ممارسات الاختزال التي تستهدف تقليص وجوده في انتماء مفرد ومعزول ومغلق إلى جماعة من الجماعات.
تضعنا هذه الإشكالية في صلب قضية «التعددية الثقافية»، ولهذا سنبدأ مقارباتنا بالتعددية الثقافية، وسيكون الجدل الذي دار حول التعددية الثقافية في المجتمع البريطاني بعد تفجيرات لندن في 7 يوليو/ تموز 2005 هو نقطة البداية لنا في الأسبوع المقبل
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2223 - الإثنين 06 أكتوبر 2008م الموافق 05 شوال 1429هـ