طغى ملف أزمة أسواق المال على أولويات المعركة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة. فالملف أسقط مؤسسات ومصارف وشركات ائتمان ورهن عقاري عريقة في تاريخها وأنشطتها الاقتصادية والاستثمارية وهدد حياة مليون إنسان أميركي بالتشرد وزرع القلق على مستقبل ودائعهم.
الملف انفجر قبل خمسة أسابيع من دورة الانتخابات الرئاسية وتحولت شظاياه إلى مواد أولية دفعت المترشحين إلى المنصب إلى تعديل وجهات سيرهم حين انتقلت المواجهة إلى الكونغرس لبحث خطة الإنقاذ التي طرحتها إدارة جورج بوش لمعالجة الكارثة وعواقبها الوخيمة على النمو والتنافس في العقد المقبل. فالانهيارات والإفلاسات وصفت من قبل خبراء الاقتصاد بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا الوصف الذي أطلقه الخبراء ليس بعيدا عن الواقع باعتبار أن الأزمة شكلت مناسبة لإعادة قراءة منظومات فكرية اعتمدتها الإدارة خلال عهد بوش. والنقاش الذي اندلع في مختلف الجبهات طرح على المترشحين للرئاسة مجموعة تحديات داخلية فرضت على الحزبين الديمقراطي والجمهوري إعادة النظر في برنامج الأولويات.
حتى إدارة بوش لم تعد تتحدث كثيرا عن القضايا الخارجية. وإذا صرحت بشأن هذا الملف أو ذاك يكون الكلام مجرد رفع عتب وإعادة تذكير بوجود مصالح أميركية لا تستطيع واشنطن التخلي عنها أو إهمالها. والتذكير بالقوة الأميركية ليس بالضرورة إشارة إلى استخدامها وإنما محاولة بائسة لاحتواء تفاعلات يمكن أن تنشأ في هذه البقعة من الأرض أو تلك.
التذكير بالقوة (العضلات العسكرية) لم يعد يخيف حتى تلك الدول التي كانت تمر في حالات من القلق الأمني أو التخوف من وجود خطة هجومية تريد واشنطن افتعالها قبل مغادرة البيت الأبيض. الرئيس الروسي مثلا أطلق سهامه النارية على واشنطن مستفيدا من انهيار الأسواق المالية وتضعضع قدرات الإدارة وعدم تمكنها من استيعاب تداعيات الأزمة بالسرعة المتوقعة. فالرئيس الروسي أعلن بوضوح أن الولايات المتحدة لم تعد قوة عظمى وأن العالم بحاجة إلى نظام نقدي دولي يعتمد سياسة تعدد الأقطاب. وكلام الرئيس مدفيديف جاء في لقاء صحافي مشترك عقده مع المستشارة الألمانية في موسكو. فالمستشارة التي توجهت إلى روسيا حاولت التفاوض مع الكرملين بشأن المصالح الثنائية وحاجة ألمانيا إلى الطاقة (الغاز) على أبواب الشتاء. والكلام الروسي بحضور ميركل أكد وجود توجه دولي يستهدف الحد من نفوذ أميركا وهيمنتها وتفردها بالقرارات من دون احترام لمصالح القوى الكبرى.
إلى روسيا هناك فرنسا وتحركها المستقل خارج المظلة الأميركية. فالرئيس الفرنسي وجه دعوة للاتحاد الأوروبي لبحث تداعيات كارثة المال الأميركية وتأثيرها السلبي على النمو الاقتصادي.
ودعوة ساركوزي للتحرك جاءت أيضا على خلفية الشعور بأن أميركا دخلت طور التراجع الاقتصادي وربما بدأت تتجه نحو العزلة الدولية والانكفاء إلى «الذات القومية» لحماية سوقها الداخلية من التضعضع بسبب حاجتها إلى سيولة نقدية تنقذ مؤسساتها من الإفلاس والانهيار.
تعثر ماكين
كل هذه المؤشرات الدولية تدل على وجود توجهات عالمية بدأت تضغط على الولايات المتحدة وتدفعها نحو إعادة النظر بتلك الأولويات التي اعتمدتها إدارة بوش في السنوات الثماني الماضية. وهذه المؤشرات الدولية يمكن متابعة تفصيلاتها من خلال رصد الخطابات والمناظرات بين المترشحين باراك أوباما وجون ماكين. فالكلام عن «الشرق الأوسط» لم يعد يحتل أولوية. كذلك الكلام عن جورجيا ونشر «درع الصواريخ» في بولندا وتشيخيا. أما موضوع العراق الذي لايزال يحتل موقعه الخاص أخذ يتراجع قياسا بالمرحلة السابقة. بينما ملف إيران النووي الذي انشغلت به إدارة واشنطن في الفترة الماضية فإنه بدأ يتراجع في الاهتمامات ليأخذ موقعه الطبيعي في الأولويات. الأمر نفسه يمكن رؤيته من خلال التردد الأميركي في موضوع السلام في «الشرق الأوسط» وضرورة قيام «دولة فلسطينية قابلة للحياة». حتى مسألة أفغانستان التي أخذت تحتل موقعا متقدما على الملف العراقي بدأت تشهد بدايات تراجع على رغم مطالبة «البنتاغون» بتعزيز القوات لمواجهة نمو «طالبان» وانتشار العنف إلى حدود باكستان القبلية (الغربية) ومنها إلى الداخل والعاصمة إسلام آباد.
أزمة أسواق المال طغت على كل القضايا الحساسة والملفات الساخنة ولم يعد بإمكان المتنافسين على منصب الرئاسة تجاهل تأثيراتها النفسية على الجمهور الانتخابي (دافع الضرائب) واحتمال أن يعدل رأيه في حال لم تتحرك القوى السياسية باتجاه معالجة مشكلاته ووضعها على رأس قائمة الأولويات. ماكين يعتبر حتى الآن الخاسر الأكبر في معركة إنقاذ أسواق المال من الإفلاس. فهذا المترشح الجمهوري بنى مجده الانتخابي على تاريخه الخاص وبطولاته السالفة في فيتنام (أسير حرب) وخبرته في السياسة الدولية ودفاعه عن المصالح الأميركية في العالم. وشكلت سيرة ماكين الشخصية قوة في جولاته الانتخابية إذ كان يستخدمها دائما للإشارة إلى ضعف خصمه وتردده وعدم معرفته بالسياسة الخارجية ودور القوة في الدفاع عن المصالح الأميركية وحمايتها من شبكات «الإرهاب» في العالم.
الآن لم تعد سيرة ماكين تخدمه جيدا في معاركه وجولاته ومناظراته الانتخابية. فهو لم يعد يتحدث كثيرا عن بطولاته في سبعينات القرن الماضي بقصد توظيفها في معركة أخذت تتوجه بنادقها إلى الاقتصاد لا الحروب الدائمة. فالأزمة المالية ساهمت في تعثر ماكينة ماكين الانتخابية، وانهيار الأسواق جرف معه خطاباته عن القوة الأميركية التي لا تقهر. الأزمة أطاحت بالكثير من الملفات وغيبت بعضها الآخر عن المشهد السياسي ووضعت ما تبقى منها في صناديق الانتظار. مثلا أين أصبح الصراع على جورجيا وبحر قزوين والقوقاز؟ وأيضا أين أصبح الكلام اليومي عن احتلال العراق وسحب الجيش وتموضعه في بلاد الرافدين؟ وأين أصبح التهديد والوعيد وكل الخيارات مطروحة ومفتوحة بشأن الملف النووي الإيراني؟ وأين أصبحت تلك التسريبات التي تحدثت عن مستقبل باكستان ووحدتها واحتمال نقل قوات من العراق إلى أفغانستان لإنهاء ملف الحرب على إرهاب «القاعدة»؟
كل الملفات موجودة وغير مهملة وهي لاتزال مطروحة في جداول أعمال المترشحين، ولكنها في مجموعها العام أصبحت تحتل مواقع متراجعة في الاهتمامات والأولويات. وهذا التعديل في تراتب الملفات جاء لمصلحة أوباما الذي شهدت شعبيته ارتفاعا نسبيا في الأسبوعين الماضيين. وفي حال تواصل ذاك النمو الانتخابي في الأسابيع الخمسة المقبلة يصبح احتمال نجاح مترشح الحزب الديمقراطي بالمنصب الرئاسي من الأمور المحسومة.
أميركا إذا مقبلة على تحولات، ونجاح أوباما في المعركة الانتخابية سيكون من المؤشرات المهمة على وجود رغبة لدى الناخب في تجربة التغيير. وحين يصبح الشارع (دافع الضرائب) على قناعة بضرورة التوجه نحو التغيير فمعنى ذلك أن أميركا أصبحت مستعدة نفسيا لتقبل الآخر المختلف حضاريا والتعامل معه باحترام كما تتعامل مع مكوناتها البشرية واللونية. وفي حال حصل الأمر يصبح كلام الرئيس الروسي عن تراجع مكانة أميركا الدولية مسألة مفتوحة على هذا الاحتمال
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2220 - الجمعة 03 أكتوبر 2008م الموافق 02 شوال 1429هـ