أصبحت المسلسلات المنبثقة من تاريخنا الإسلامي العربي عادة رمضانية تتنافس على إنتاجها وعرضها الشاشات الفضائية العربية، وكانت تلك المسلسلات ومازالت لها تأثير كبير في وجدان المشاهد العربي، لكن تاريخنا ليس حربا ولا شعرا ولا مجونا، تاريخنا أكبر من أن يختزل في جمال زنوبيا أو قسوة الحجاج أو مكر أبوجعفر المنصور، وهو أوسع من أن ينحصر في خيمة أو حارة، إنه تاريخنا الذي لا نريد له أن يكون ملعبا لمن لا حيلة له.
من السهل على الإنسان سواء كان كاتبا أو مخرجا أن يقول ما يريد في سياق الكلمة أو الصورة تحت غطاء تاريخي من خلال استنطاق الحدث وانتقائه لشخوص تاريخية معينة، لكن من المهم بمكان ألا يخرج عن السياق العام للحدث وتأويله وفق ما يراه بل يتجاوزه إلى ما يتمناه ويتخيله، إذ في غالبية الأحيان نرى كاتب النص الدرامي التاريخي يتجاهل التفاصيل الدقيقة ويتعدى المخلية المكانية والزمانية للحدث ويقحم أفكاره ويحولها إلى مساجلات وحوارات ربما تكون ابعد من الشخوص التاريخية نفسها، ولا يمكن أن يتحول كاتب الدراما والمخرج إلى موثقي تاريخ، فليس جميع ما تقدمه الشاشات المرئية في مجال الدراما التاريخية هو إبداع ناتج عن الأداء التمثيلي أو المشاهد التصويرية والمؤثرات المرافقة وإنما المسألة أكبر من ذلك بكثير، إنه تاريخ أمة وماضيها سواء قبلنا به أم رفضناه.
ربما يتساءل الكثيرون أين يكمن الاجتهاد وحرية التعبير؟ وأين دور الإبداع الفني؟ وهذا ما حدى بالمخرج السوري حاتم علي، وهو أحد أهم من اخرجوا هذا النوع من المسلسلات التاريخية في السنوات الأخيرة، إلى القول: «لن أعود للتاريخ لأقلب صفحاته البيضاء فقط»، وهي إشارة إلى أن للكاتب والمخرج الحق في الخروج عن النص وتأويله واستنطاق الحدث واعتبار الأمر وكأنه لا يتعدى قصة وهذا ما يؤكده رئيس قسم الإعلام في جامعة الملك سعود في الرياض إبراهيم البعيّز بقوله إن «الجميع يريد أن يحاسبها، وكأنها مصادر للتاريخ، بينما هي اقرب ما تكون إلى قصص تاريخية صفت بشكل درامي، وبالتالي لا يمكن أن ننظر لها على أنها تقدم صورة واقعية خالصة». إذ يرى البعيّز أن هدفها يكمن في «الترفيه وليس التثقيف» ولا يمكن خضوعها للمحاسبة الشديدة، لأن المحاججة التاريخية كما يعتقد البعيّز تكون فقط عندما يطرح برنامجا وثائقيا خالصا. وهذا بالطبع يرفع المسئولية عمن يتصدى لمثل تلك المسلسلات من باب الترفيه والقصة والفن ومستلزمات الإبداع، متناسين أن المتلقي العربي يأخذ بتلك المشاهد كحوادث تاريخية موثقة، فهو ينأي بنفسه عن التمحيص والتدقيق في المصادر والمراجع التاريخية.
إن التاريخ في الشرق مقدس، وهناك شخصيات يحيط بها الغموض وتدور حولها اختلافات كبيرة، وهناك روايات متعددة وحوادث متناقضة، وهذا الأمر يأخذنا للتساؤل بشأن المنهجية العلمية التي يتم على أساسها اختيار النص، وأين تكمن المصداقية. الكاتب هنا يختار الروايات التي يعتقد بصحتها، لكن لابد أن يشير إلى رواة النص، ومن الطبيعي أن يكون هذا الأمر غير متسق مع المشهد التمثيلي فنيا، ولكن ربما يكون مقبولا، إذ ظهر على الشاشة بنص كتابي يشير إلى مرجعية المشهد التمثيلي سواء كان من مرجع أو من الكاتب نفسه من خلال استنطاقه الحدث، إذا جاز له ذلك. كما أن بعض المسلسلات أهملت ذكر التاريخ بعدم تحديد أعوام الحوادث، بل غيب بعض التسلسل عنها وقفزت أحداث قبل أحداث وتمت التصفية وفقا لمجريات العمل الفني بشكل يؤثر على الفهم للتاريخ وتتبعه بشكل لا يعطي صورة واضحة عما جرى وفقا للمعطيات المؤثرة على الحدث وخصوصا الإنسانية منها، لأن النوازع والرغبات البشرية أمر بالغ الأهمية في سير الدراما التاريخية، لكن بشرط ألا يأخذنا إلى التجني أو تبني حوارات ومواقف غير صحيحة، رغبة في تضخيم الشخوص وخلق مزيد من الإثارة، فذلك يحمل معه كثيرا من التجاوزات، ولكن العادة جرت وفقا لمتطلبات السوق وإرضاء لما يريده المشاهد على حساب الحقيقة والتاريخ بغية الحصول على عوائد مالية تغطي نفقات تلك المسلسلات التي تستهلك كما هو معروف أموالا طائلة.
لكن، من هو المسئول عن تقديم التاريخ بهذه الصورة التي تحمل كثيرا من التجاوزات؟ في العام الماضي عندما كثرت الانتقادات بشأن المسلسلات التاريخية، أصدرت الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بيانا على لسان أمينها العام عبدالله بن عبدالمحسن التركي داعيا فيه وزارات الإعلام والثقافة في البلدان العربية والإسلامية إلى مراقبة سير الخلفاء والملوك المسلمين التي تعرضها الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، كما دعا إلى تنقيتها مما يتعارض مع الحقائق التاريخية، لكن البيان في واقعه مناشدة وطلب لا يتجاوز الإلزام، ومعه تبقى المسئولية معلقة في أعناقنا جميعا.
ومع هذا الزخم الكبير والمتنوع من المسلسلات التاريخية التي تحاكي القديم والحديث على حد سواء تبقى الأسئلة المشروعة هاجسا يقلق الجميع، فالي أي مدى تتعمد هذه المسلسلات التاريخية الإسقاط السياسي على الواقع؟ وما المغزى من انتقاء شخوص وأحداث بعينها؟ و لمَ التضارب في الإيحاء في سير الشخوص كالملك فاروق مثلا؛ فقد ظل دهرا ملكا فاسدا والآن تغيرت البوصلة نحوه؟ فهل أصبح فاروق شخصا آخر؟ وإلى أي منحنى سيأخذنا تقديس البداوة والحارة؟ ربما هي حالات تنضح بالكرم والشجاعة والإباء، لكنها لا تخلو من روح القبلية والعصبية والحجر على النساء وهي أمور ضاربة في الجاهلية الأولى وبعيدة كل البعد عن قيم الحضارة الإسلامية وما تنشده لبناء جيل منفتح، فمتى يظهر التاريخ أمام المتلقي العربي كما قرأ عنه وتلقاه من معلميه وآبائه؟
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 2220 - الجمعة 03 أكتوبر 2008م الموافق 02 شوال 1429هـ
افع
جميل