تاريخ تنافس الدول العظمى للسيطرة على المنظمات الدولية وخصوصا الأمم المتحدة ومجلس الأمن، طرح جديا منذ العام 1814 الى العام 1815 عندما اجتمع القادة الأوروبيون في فيينا واتفقوا على قواعد جديدة لإدارة العلاقات الدولية (الاتفاق الأوروبي) للحفاظ على السلم الأوروبي، وهو اتفاق يهدف من بين امور اخرى الى حل النزاعات بين الدول الاستعمارية، والى توزيع المستعمرات واقتسام الدول الضعيفة واستغلال خيراتها. الا ان تلك الدول لم تتفق على حصص اقتسام ثروات المستعمرات الامر الذي نتج عنه التوتر في العلاقات بين البلدان الاستعمارية واندلاع حربين عالميتين مدمرتين (1914 و1939).
بعد الحرب العالمية الأولى في العام 1920 شرعت بلدان أوروبا الشرقية والغربية في البحث عن صيغة للأمن الجماعي، فأنشأت عصبة الأمم للمحافظة على السلام العالمي، إلا ان الاطماع الاستعمارية للدول المؤسسة كانت السبب في فشل العصبة، واندلاع الحرب العالمية الثانية وبذلك تطلب من جديد البحث عن صيغة اخرى للأمن الجماعي والمحافظة على السلام العالمي، وعلى ذلك الاساس انشأت البلدان المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وبعض البلدان العربية والأجنبية شبه المستقلة، هيئة الأمم المتحدة العام 1945 ملاذا أخيرا للأمن والسلم العالميين، بشرط ان تحتفظ الدول الاستعمارية الكبرى (أميركا، الاتحاد السوفياتي، بريطانيا، فرنسا) والصين بحق النقض الفيتو في مجلس الأمن. لكن نظرية الأمن الجماعي اصبحت مهددة في ظل انقسام العالم الى معسكرين شرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي وغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية. الا ان انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار دول التحالف الشرقي نتج عنه قيام النظام العالمي الجديد بعد حرب الخليج الثانية، واستفراد اميركا بالسياسة الخارجية العالمية والسيطرة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالذات لكونها القوة الاعظم.
حوادث 11 سبتمبر/ايلول 2001 ساهمت في احكام السيطرة الأميركية على جميع المنظمات الدولية المتعددة الاطراف. فبعد ان كانت اميركا تشرّع لمجلس الأمن لقتل الشعوب، وتشرع «لاسرائيل» لقتل الفلسطينيين، من منبر مجلس الأمن، باصدار قرارات للمقاطعة الاقتصادية وشن الحرب على كل من كوريا وفيتنام والصومال والعراق وافغانستان وبعض البلدان النامية، تجاوزت تلك الصلاحيات باصدار الاوامر للبلدان الأعضاء والدائمة العضوية في مجلس الأمن وبذلك اصبحت جميع بلدان العالم والسياسة الدولية رهينة للسياسة الأميركية.
البلدان العربية كذلك اصبحت ضمن نطاق الطاعة الأميركية على رغم انها اكتسبت حظوة خاصة لدى اميركا لامتلاكها موقعا استراتيجيا منذ ثلاثينات القرن العشرين، عندما اكتشف مخزون كبير للنفط في الجزيرة العربية. وبعد ان تملك العرب نفطهم في بداية سبعينات القرن العشرين بدأت القوى الكبرى في وضع الخطط الجهنمية للسيطرة على النفط العربي، وابقاء المنطقة مشتعلة بشكل دائم ومقسمة وغير مستقرة بزرع دولة «اسرائيل» على ارض فلسطين وفي قلب العالم العربي، وبذلك اصبحت المنطقة العربية بؤرة الصراع الدولي وهذا ربما يكون سبب معاقبة اميركا لبعض البلدان العربية التي تعتبرها مارقة مستخدمة مجلس الأمن لفرض عقوبات اقتصادية صارمة أو شن حرب مدمرة عليها، تضاعفت الهيمنة الاميركية على مجلس الأمن بعد الانهيار التام للاتحاد السوفياتي وتشكيل التحالف لتحرير الكويت من الغزو العراقي العام 1991. عند ذلك ابتدع الرئيس جورج بوش الأب فكرة النظام العالمي الجديد ونصب نفسه قائدا لذلك النظام، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد واجهت القوة العظمى في العالم أول تحد حقيقي لها، عندما كسرت جماعات أصولية اسلامية الجبروت والعنجهية الأميركية، وهاجمت الدولة العظمى في عقر دارها وكانت تلك أكبر هزيمة سياسية هزت الادارة الأميركية وافقدتها صوابها، وكان يجب عليها رد اعتبارها كدولة عظمى وتأديب الاصوليين في أفغانستان بامطارهم بالصواريخ القاتلة، وتأديب ما تعتبره اهم دولة مارقة وهو العراق بضربه عسكريا، لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد نشأ عن الاخطاء الأميركية السياسية التي ارتكبها مستشارو الرئاسة المسيحيون اليمينيون المتصهينون، انقلاب دولي على الزعامة الأميركية بقيادة فرنسا وألمانيا بسبب تضارب المصالح بين الدول الكبرى، ما اجبر روسيا والصين على اللحاق بركب الحلف العالمي الجديد المتصدي لأميركا، الغريب حقا ان البلدان الصغرى الممثلة في مجلس الأمن كسوريا وتشيلي وغينيا والباكستان شعرت بوطأة السياسة الأميركية المنفلتة على مصالحها، وانضمت بذلك إلى الحلف الجديد لتشهد اميركا اكبر هزيمة سياسية لها في تاريخها القصير، عندما سحبت هي وبريطانيا واسبانيا مشروع قرارهم بشأن تخويل الأمم المتحدة شن حرب على العراق.
اذا الواقع الجديد ربما يكون وراء اصرار الرئيس الأميركي جورج بوش على تخطي قوانين وأنظمة وقرارات الأمم المتحدة وانذار صدام حسين بشن حرب اذا لم يغادر العراق مع حاشيته، في الحقيقة انها ليست المرة الأولى التي تضرب اميركا فيها بقرارات الأمم المتحدة عرض الحائط بل سبق لها ان ضربت ما يقرب من 14 معاهدة دولية عرض الحائط، منها: معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، ومعاهدة كيوتو للتغير المناخي، ومعاهدة انشاء محكمة الجزاءات الدولية في لاهاي، وحكم محكمة العدل الدولية عندما لغمت أميركا موانىء نيكاراغوا وغيرها من مخالفات القانون الدولي.
لا شك ان اتخاذ اي خطوة أحادية لشن اي هجوم انفرادي على العراق، واحتلال اراضيه وانتهاك سيادته الاقليمية، وتغيير نظام الحكم فيه، مخالف لنصوص ومصادر القانون الدولي وخصوصا الفقرة السادسة من ميثاق الامم المتحدة. الأمم المتحدة تعتبر اية دولة تنتهك الفقرة السادسة من الميثاق توضع في خانة الدولة المعتدية وينطبق عليها تطبيق مجلس الأمن للفقرة السابعة من الميثاق الخاصة باتخاذ اجراءات كسرية ضد الدولة المعتدية (عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية) على عضو آخر من اعضاء الأمم المتحدة. فهل تستطيع الأمم المتحدة تطبيق الفقرة السابعة من الميثاق على ادارة بوش، كما فعلت مع العراق عندما غزا الاخير الكويت؟ سؤال نحاول الاجابة عليه.
القانون الدولي أو ما يعرف بالقانون الدولي العرفي أو قانون العلاقات بين الدول يعتبر من صلب مجموعة القوانين والنظم المطبقة بين الدول ذات السيادة والكيانات الاخرى واعطيت لهذه القوانين صفة الشرعية والشخصية الدولية، ليحترمها المجتمع الدولي كما قال جيرمي بنثم. اي خطوة من قبل ادارة بوش بشن هجوم على العراق من دون موافقة الأمم المتحدة ستعتبر خطوة ضد الشرعية، الدولية المتمثلة في مصادر القانون الدولي. مصادر القانون الدولي هذه صدقت وانضمت اليها حكومة الولايات المتحدة.
الميثاق لا يجيز احتلال اراضي الغير بالقوة العسكرية، ويطالب عوضا عن ذلك بتحقيق اكبر قدر ممكن من التعاون الدولي لتشجيع بلدان العالم على احترام حقوق الانسان وحق الشعوب في العيش بحرية، اذا كان هناك شرخ للقانون الدولي من دولة عظمى ما عسى الأمم المتحدة عمله بعد تحرر مجلس الأمن من التشريع الاميركي للقتل؟ والسؤال الاصعب المطروح هو ما صدقية وجود الأمم المتحدة كمنظمة دولية مهمتها الاساسية استتباب السلام والأمن العالميين وحل النزاعات بالطرق السلمية؟ اني أعتقد ان أهم أخطاء الامم المتحدة بعد سحب القرار الأميركي من مجلس الأمن هو انصياع الأمين العام للأمم المتحدة للتهديد الأميركي وسحب المراقبين الدوليين للانفومك والمفتشين الدوليين لمراقبة اسلحة الدمار الشامل العراقية المنفذين لقرار مجلس الأمن 1447 وممثلي المنظمات الانسانية العاملة في بغداد، من دون تشريع دولي او سند قانوني او قرار من مجلس الأمن، وفوق هذا وذاك اذا كان الهدف الاول للأمم المتحدة هو حماية السلام والأمن الدوليين وفقا للفقرة السادسة من الميثاق الخاصة بحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية عبر: التفاوض، التوسط، التحكيم، وتطبيق القرارات الدولية الاخرى، ماذا سيحدث للأمم المتحدة بعد فشل الحل السلمي واستخدام اميركا القوة ضد العراق من دون تشريع دولي؟ في هذه الحالة سيتعرض الأمن الجماعي للدول الاعضاء في الأمم المتحدة للخطر، وبحسب الفقرة السابعة لميثاق الامم المتحدة فان أمن كل عضو في الامم المتحدة يجب ان تضمنه الدول الاعضاء مجتمعة، واذا لم تتمكن الدول الاعضاء وخصوصا الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن من ضمان امن وسلامة العراق فانها ستكون من دون شك نهاية الأمم المتحدة وانتحار قوانينها الدولية. واذا لا قدر الله استمرت الامم المتحدة في اداء واجبها كالمعتاد فان دورها سيكون ضئيلا وتصبح فأرا لا يخيف احدا.
ليس من المفارقات ان نعلم ان تاريخ الأمم المتحدة شهد الكثير من المتناقضات في اصدار القرارات الدولية، والاخذ بالمعايير المزدوجة عند تطبيقها. وفوق هذا فان الولايات المتحدة اتخذت الامم المتحدة جسرا لشن الهجوم على أفغانستان والعراق والصومال وفيتنام وكوريا وبنما وغرينادا وغيرها من البلدان الضعيفة. بل ان الولايات المتحدة كما يقال ارتكبت مجازر في حق الانسانية من دريسن في المانيا الى افغانستان وصلت الى 60 مليون قتيل، فكيف تطبق عليها المادة السابعة من ميثاق الامم المتحدة؟ ومن يستطيع تنفيذ المادة السابعة على الولايات المتحدة؟ بالنسبة إلى شعوب العالم الضعيفة فان تحرر الامم المتحدة من التشريع الأميركي لمجلس الأمن لقتل شعوبها هو أكبر انجاز حققته دول العالم ضد أميركا
العدد 222 - الثلثاء 15 أبريل 2003م الموافق 12 صفر 1424هـ