من بعد أن تبوأت لها مقعدا في السلم العالمي لــ «الدول الفاشلة»، وذلك لأول مرة في تاريخها، ومن بعد سلسلة من الأبحاث والكتب القيمة التي ألَّفها عدد من كبار المفكرين والباحثين الغربيين والعرب نذكر من بينهم المفكر العربي عضو الكنيست الإسرائيلي الأسبق عزمي بشارة الذي عرف بأطروحاته المهمة بشأن الأوهام والتناقضات الجوهرية التي تقوض المصداقية المبدئية والنموذجية لديمقراطية وعلمانية الكيان الصهيوني، فهناك من يتحدث عن تمييز اثني فاقع يتعرض له الكثير من المواطنين الإسرائيليين اليهود من ذوي الأصول السفاردية (المشرقية) في مقابل رفاهية المواطنين الإسرائيليين من ذوي الأصول الأشكنازية (الغربية)!
ولعل أجلى أوجه التمييز العنصري البشع هو ذاك الذي يقوم به الكيان الصهيوني تجاه مواطنيه من المنتمين إلى الأقلية العربية الكبرى التي تشكل نسبة معتبرة من المواطنين الإسرائيليين، كما أضحت منذ عقود هاجسا ديمغرافيا مرعبا بالنسبة إلى الكيان الصهيوني الذي أخذ يتعامل معها كما لو أنها غرغرينا تلتهم أطرافه وتقضي عليها وذلك بدلا من أن يتقبلها كأمر واقع لا مناص من قبوله والتعايش معه ودمجه ضمن نسيج الحرية والمساواة والبنيان المؤسسي الحديث للكيان الصهيوني!
ولعل ما جاء في مقال المحامي والفيلسوف الإسرائيلي نير آيزيكوفيتش المنشور بتاريخ 24 سبتمبر/ أيلول 2008 في الصحيفة الأميركية المحافظة «كرستيان ساينس مونيتور» تحت عنوان «ديمقراطية إسرائيل المنزلقة»، يسلط المزيد من الضوء على هذه الأزمة الجوهرية التي تتهدد الواحة الديمقراطية الإسرائيلية، وينسف «البروباغاندا «الصهيونية والغربية بشأن صدقية وتميز هذا النموذج الذي وإن كان يواجه ما يعتبره بالتحدي المصيري المستهدف لهوية الدولة «اليهودية»، فإن مزيدا من الاستجابات التوتاليتارية والشمولية من الدولة الإسرائيلية أطاحت بذاك التصور الحلمي المثالي عن الديمقراطية الإسرائيلية المتألقة وجعلت بالتالي من «إسرائيل» أشبه ما تكون بجيرانها ومحيطها من الجمهوريات الأوتوقراطية أو «الجملوكيات» - والاستعارة الأخيرة من الكاتب الصحافي فهمي هويدي - حتى وإن أصبحت بحكم التصنيف الدولي شريكة لجيرانها في سلم «الدول الفاشلة» آنف الذكر!
فهل تطبعت وتعلمت «إسرائيل» أو الصبي الإسرائيلي المعسول ذو النظارات، بحسب تعبير الصهيوني دانيال بايبس، وذلك من قبل الجيران أو «العصابات الشريرة»، أم أن النموذج الصهيوني لم يكن أساسا سوى محض هراء مهترئ وجرس إنذار مبحوح معلق في رقبة الامبريالية العالمية ليفضح نفاقها وزيفها الأصيل وتدبيجاتها التوراتية تارة والإنجليلة تارة أخرى ولعهودها القديمة والجديدة؟!
وقد كتب آيزيكوفيتش في مقدمة مقاله «لطالما نسعد نحن الإسرائيليين بأن ننظر إلى أنفسنا بصفتنا (الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط)، حيث يستخدم ذلك الشعار لاستخدامات عدة منها أننا نستخدمه لتبيان علاقتنا الوثيقة بالولايات المتحدة الأميركية، ولنميز أنفسنا عن جيراننا العرب المستبدين، وللإشارة إلى نجاحنا الاقتصادي الاستثنائي، وحتى لنبرر ما نقدمه من طلبات مرحلية لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي»، ويضيف مستدركا «لكن بالتأكيد هنالك مشكلات معروفة مع فهم الذات الديمقراطية هذا، إذ إن وثائقنا الدستورية الرئيسية تتحدث عن (دولة يهودية ديمقراطية) في حين أن 20 في المئة من مواطنينا هم غير يهود، ونحن لا يوجد لدينا فصل بين الكنيس والدولة».
وهو بالتالي يشير إلى أن كون «إسرائيل» الدولة الأكثر دمقرطة وتحررا في المنطقة وهي في الوقت ذاته دولة أوتوقراطية مستبدة لا يعني بالضرورة أنها دولة ديمقراطية، ويستشهد بالمؤشرات الأخيرة وما أوحت إليه من أن «إسرائيل» باتت أقرب ما تكون إلى صورة جيرانها الأوتوقراطيين الذين تتفاخر عليهم!
ويستحضر الكاتب عددا من الأمثلة عن ذلك التراجع الانتحاري الإسرائيلي الداخلي ومنها ما مرره الكنيست الإسرائيلي في بداية هذا الصيف من قانونين مأزومين يعنى الأول بإعفاء الدولة من تعويض الفلسطينيين المتضررين من عمليات «جيش الدفاع الإسرائيلي» في الحدود، أما القانون الآخر فينص على «حصر الجولات والسفرات التي يقوم بها الأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي كما يؤكد أن أي مواطن إسرائيلي يقوم بزيارة «دولة معادية» سيعتبر داعما لما تقول به هذه الدولة من جهود عسكرية ضد الدولة اليهودية وبالتالي يعاقب بالحرمان من الترشح إلى البرلمان لسبع سنوات متتالية من بعد الزيارة»!
ويذكر الكاتب ما أبداه مشرع القانون زيفولون أورليف من تصريحات مفادها أن «هذه التشريعات ستمنع من انتخاب أحصنة طروادة في المجلس التشريعي، وسيرغم العرب في حينها على الاختيار ما بين البرلمان السوري والبرلمان الإسرائيلي»، ويتناول ما قام به الكنيست الإسرائيلي من تمديد صلاحية بند يعفي السلطة الأمنية من تصوير الاستجوابات المتعلقة بالمسائل الأمنية!
ويعلق الكاتب على سلسلة التراجعات الخطيرة تلك بقوله إن الديمقراطية لا يمكن أن تقتصر فقط على عزل مسئول كبير فاسد أو منح الحقوق الانتخابية وبعض الحريات والأهم من ذلك أن «الديمقراطية ليست فقط هي حكم الغالبية، بل إن روح وجوهر الديمقراطية يكمن في تمكين الغالبية بضمان عدم السماح لها بأن تستبد بالأقلية، فمثل ذلك الفعل المتوازن هو ممكن فقط إذا ما تم وضع حزمة قوية من الحقوق السياسية في مكانها، إذ إن الدولة التي تتخلى عن هذه الحقوق لصالح الأمن القومي ستكون على الأرجح دولة آمنة، لكنها نادرا ما ستكون دولة ديمقراطية».
وفي حين أن الكاتب يستعير مصطلح «الديمقراطية الدفاعية» من قاضي القضاة الإسرائيليين الأسبق أهارون باراك فإنه يذكر مدى سهولة إمكانية أن تستغل تلك الظروف الأمنية لتقويض دعائم الحماية والحقوق الدستورية. ويرى الكاتب أنه وحتى لو تم تأويل تلك القوانين المقوضة والمعيقة للحريات والحقوق الديمقراطية بأنها تأتي للتصدي لصد مد الحراك «الإسلامي السياسي» فإن «الانتصار الحقيقي إنما يكمن في أن نقدم أفضل مثال لأنفسنا بدلا من أسوأ مثال لها»!
وفي النهاية يدعو الكاتب إلى الاقتداء بنصائح الدبلوماسي الأميركي المخضرم جورج كينان التي أبداها في الأيام الأولى للحرب الباردة، حيث قال في حينها «من اجل أن تحقق أميركا الفوز، ينبغي عليها أن ترتقي إلى تقليدها الأفضل وتثبت استحقاقها للبقاء» وهو ما ينطبق - بحسبه - على الحالة الإسرائيلية، فحتى تنتصر «إسرائيل» ينبغي عليها ألا تفرط في «حشمتها السياسية» وتقاليدها الديمقراطية وعدم التفريط بحقوق مواطنيها، وإلا فإنها لن تستحق وربما لن تبقى فتزول ليس لسبب إلا لكونها كانت على باطل!
ولا أدري، إن كان من اللائق أن أدعو البعض إلى قراءة هذا المقال الإسرائيلي بامتياز وإعادة قسمته على محاور الحرية والمساواة في مشهدنا المحلي أو لربما إهدائها لمروجي «لوثة التجنيس» ودعاة خلق «الطائفة الثالثة» على حساب أهل البلد، فليغفروا لي سوء أخلاقي السياسية حينها!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2218 - الأربعاء 01 أكتوبر 2008م الموافق 30 رمضان 1429هـ