العدد 2217 - الثلثاء 30 سبتمبر 2008م الموافق 29 رمضان 1429هـ

رفقة وأمي

Common Ground comments [at] alwasatnews.com

خدمة Common Ground الإخبارية

كان اليوم هو المرة الأولى خلال السنوات السبع الماضية التي أدخل فيها مدينة القدس بشكل قانوني. لدي بطاقة هوية خضراء للضفة الغربية، ما يعني أنه منذ بداية الانتفاضة سنة 2000 وبناء جدار الفصل، مُنِعت من دخول أي جزء من «إسرائيل»، إضافة إلى القدس التي لا تبعد سوى عشرين دقيقة عن مدينتي رام الله.

إلا أن ذلك لم يمنعني من الذهاب إلى هناك. كنت أتسلق التلال الرملية مقابل حاجز قلنديا، نقطة التفتيش الرئيسية لدخول القدس، وأختبئ خلف المباني عن عيون الجنود الإسرائيليين، وأتسلل إلى مدينة القدس. الأمر كان يستحق المخاطرة للذهاب إلى المدينة وقضاء يوم أتمشى في شوارع البلدة القديمة وأتواجد في عالم ما وراء الجدار.

كان من المهم عندي كذلك أن أرى الإسرائيليين وأتمكن من التفاعل معهم وأن أراهم دون لباسهم العسكري. كان الأمر هاما لصحتي العقلية، وحاجة ضرورية لتحطيم صورة شعب جماعي من المسوخ البشرية ترتدي الزي العسكري الأخضر.

اليوم كان مختلفا. حصلت على تصريح لمرافقة والدتي إلى المستشفى لإجراء علاجها الكيماوي، غير الموجود في رام الله أو أية مدينة فلسطينية في الضفة الغربية. السرطان أعطاني الضوء الأخضر، بشكل أساسي، للانتقال إلى القدس.

بدأت الرحلة مبكرة جدا. عند وصولنا إلى حاجز قلنديا حيث تسيطر «إسرائيل» على الحركة بين رام الله والقدس، والذي أصبح نقطة حدودية أو محطة عبور وليس مجرد حاجز تفتيش. كان علينا إعداد بطاقاتنا الخضراء وتصاريحنا والمشي عبر جهاز الكشف عن المعادن، ثم عرض الهويات والتصاريح عبر نافذة زجاجية أمام الجندي الإسرائيلي خلفها، ليراها ويُدخِل المعلومات في جهاز الحاسوب.

بينما كنت أقف هناك ويداي مرتفعتان على الزجاج تحملان البطاقات أمام الزجاج، لم يسعني سوى التفكير «أنا أكره الاحتلال. أنا أكره السرطان. أكره حاجتنا اليائسة لهذه المدينة وللمستشفى».

عند عبوري الحدود كانت هناك ساحة واسعة خالية. عبرنا وبدأنا البحث عن سيارة تأخذنا إلى المستشفى. أول سؤال طرحه سائق التاكسي: «بطاقة خضراء (فلسطيني) أو زرقاء (إسرائيلي)؟»، عندما كان الجواب «خضراء» اضطررنا لأخذ طريق بديل أبعد بكثير إلى المستشفى. لون هويتنا يقرر الطرق التي نستطيع أن نسلكها أو لا نسلكها داخل القدس وحولها.

كان المستشفى ضخما مكونا من عدد من المباني القديمة. كان مستشفى إسرائيليا كغيره مليء بأجهزة الكشف عن المعادن والأعلام الإسرائيلية عند المدخل وفي الداخل، وصور «الرواد» في «إسرائيل». لم يكن أمرا غير عادي. يمكن فهم تركيبة المجتمع الإسرائيلي من خلال السير في أروقة المستشفى.

عمال النظافة كانوا من الفلسطينيين، والأطباء كانوا إسرائيليين. في قسم السرطان كانت هناك أعمال تجديد وإصلاح، وكان العمال بالطبع فلسطينيين.

كانت وحدة السرطان نظيفة ومرتبة جدا، مليئة بالممرضات. بعد مقابلة الطبيب توجهنا إلى قسم للحصول على الترتيبات اللازمة وبدء العلاج الكيماوي. بعد برهة وجيزة اكتشفنا أن الصيدلية لم توافق على التأمين الصحي لوالدتي لأن السلطة الفلسطينية تسدد قيمته. ما تبع ذلك كان تمثيلية بيروقراطية للموافقة على التأمين. شخص واحد هب لمساعدتنا: رفقة.

رفقة ممرضة إسرائيلية في الثلاثينات من عمرها على ما يبدو، تعمل بدوام كامل في قسم السرطان وتقوم بإعطاء العلاج. كانت واحدة من قلة في الوحدة ممن يتكلمون الإنجليزية، واشتبكت بالصراخ مع نصف الموظفين للحصول على الموافقة على تأمين أمي. وقفت أمام أمي مقابل مكتب الاستقبال المسئول عن توفير الدواء، وصاحت بالعبرية على موظفين كانا يطالبان بتوقيع إضافي لإعداد الجرعة. ظلت تتابع موضوع والدتي وتطمئن عليها طوال اليوم لضمان حصولها على الاهتمام الضروري والإجابة على كافة استفساراتها.

وحدة السرطان في مستشفى شارع زيدك في القدس هي أحد المواقع القليلة جدا التي يبدي فيها الإسرائيليون والفلسطينيون بعض الإنسانية تجاه بعضهم البعض. كانت هناك مشاعر صداقة ولطف كثيرة. شعر كل واحد في ذلك الطابق بالحاجة للترابط ونسي الجدران ونقاط التفتيش والحقد الموجودة في الخارج.

جلست أنا وبعض أصدقائي وعمتي حول والدتي لبضع ساعات. بينما بدأ العلاج يجري ببطء في عروقها تكلمنا عن السرطان والقدس والطاقة الإيجابية وواشنطن العاصمة وشقتي ومليون موضوع آخر. الحوار في غرفة العلاج الكيماوي جرى بالعربية والإنجليزية والعبرية وأحيانا بالروسية، ولم يبدِ أحد أي امتعاض مع تحول اللغات واللكنات.

عند انتهاء العلاج جاءت رفقة لتودع أمي. سألتها أمي إذا كانت ستكون هناك في الغد، ولكن رفقة قالت إنها لسوء الحظ ستكون في إجازة ذلك اليوم. «كلا، إنه حظي السيئ أنك لن تكوني موجودة»، ضحكت أمي. علمت أنه خلال تلك اللحظة القصيرة نسيت أمي حاجز التفتيش وتضايقها من العبرية، لغة المحتل، وأيام منع التجول التي لا تنتهي، ولم تتذكر سوى رفقة، الممرضة التي ساعدتها وجعلت حياتها في ذلك اليوم أكثر سهولة بقليل.

قبل عودتنا إلى رام الله مشينا على سفوح جبل الزيتون وعبر البلدة القديمة. لم تبد القدس تلك المدينة الدافئة المعتادة التي تبهر الأنظار. لم أستطع إلا أن أفكر أنه في مكان ما من القدس الغربية يوجد هناك مستشفى قديم مازال التفاهم بل وربما نوع غريب من الحب يتواجد فيه بإصرار.

* تتابع دراسة الماجستير في الكتابة الإبداعيّة في الجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة. وهي مديرة تحرير نشرة فوليو Folio الوطنية الأدبية بالجامعة الأميركية، وهي أصلا من يافا، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»

إقرأ أيضا لـ "Common Ground"

العدد 2217 - الثلثاء 30 سبتمبر 2008م الموافق 29 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً