كانت سيرة الرسول (ص) حتى اللحظات الأخيرة ثاني أهم مصادر التشريع الإسلامي خصوصا في الفترة الراشدة. وشكلت الإجراءات الإدارية والاقتصادية والكتب (أهل نجران، ثقيف، دومة الجندل، هجر، أيلة، خزاعة، زرعة) والمعاهدات نقاط ارتكاز أساسية، بعد الآيات المنزلة، في بناء الدولة وتحديد علاقاتها بالدين والمجتمع.
تدرج اكتمال الصورة
اعتمد الفقهاء على تلك الإجراءات بحسب تتابعها الزمني لدراسة مجرى التطور وتعرجاته التنظيمية، واتفق المؤرخون على أن غزوة نخلة، التي جرت في السنة الثانية بقيادة عبدالله بن جحش، كانت أول غارة تسفر عن غنيمة. وفيها قُسم أول خمس في الإسلام. وبعدها فُرض الصوم في رمضان وأمر الناس بإخراج زكاة الفطر. بعد نخلة جاءت معركة بدر الكبرى وتم في نهايتها تقسيم الغنائم بين المسلمين على السواء وضرب فيها لثمانية أفراد لم يحضروا المعركة. وبعد بدر كانت غزوة بني قينقاع (حلفاء الخزرج) وفيها اقتسم المسلمون ما كان لهم من مال فتمت قسمة الغنيمة وكان أول خمس أخذه الرسول (ص).
في السنة الثالثة جرت غزوة الفردة (ويقال القردة) بقيادة زيد بن حارثة فعاد بالغنيمة إلى المدينة وبلغ خُمسها 20 ألفا وقسمت الأربعة أخماس الباقية على السوية.
تمت في السنة الرابعة غزوة بني النضير فوافقوا على الجلاء وأن تحمل الإبل متاعهم إلا الذهب والفضة والسلاح، وكانت ممتلكاتهم خالصة للرسول (ص) يضعها حيث يشاء ففرقها بين المهاجرين الأولين من دون الأنصار إلا رجلين فقيرين (أبا دجانة، وابن حنيف). وتمت غزوة بني قريظة (حلفاء الأوس) بعد فشل حصار المدينة (غزوة الخندق) في السنة الخامسة فقسمت أموالهم وأخرج منها الخمس، وأعطي الفارس ثلاثة أسهم والراجل سهما. واعتبرت أول فيء في الإسلام وقع فيه السهمان والخمس. وكان أول مغنم أعلم فيه سهم الفارس.
وقعت في السنة السادسة غزوة ذي قرَد وتمت قسمة الإبل والرماح وفيها أعطي سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل لأنه قاتل فارسا وراجلا. وتمت غزوة بني المصطلق (من خزاعة) وفيها تمت المصاهرة بينهم وبين المسلمين فأسلموا وأدوا صدقاتهم وأعتقت المصاهرة أكثر من مئة أسير.
في السنة السادسة كانت كتب الرسول (ص) بعد صلح الحديبية إلى زعماء الأقوام والقبائل والملوك والقياصرة، وأشهرها تلك التي أرسلها إلى كسرى وقيصر والنجاشي (الحبشة) والمقوقس (الاسكندرية) والحنفي والغساني (بلاد الشام)، أو تلك التي أرسلها إلى قبيلة جذام فأسلمت، وأهل اليمن فأسلموا، وملك اليمامة، ووالي البحرين فأسلم ومعه كل العرب وصالح أهل الكتاب والمجوس على الجزية (من كل بالغ دينار).
كان في السنة السابعة حصار خيبر فطلب أهلها الصلح على أن تحقن الدماء مقابل المقاسمة على النصف وأن يخرجهم إذا شاء. وبعد حصار خيبر طالب أهل فدك بالصلح نفسه فتم الاتفاق وكانت خيبر فيئا (خراجا) للمسلمين وفدك خالصة للرسول (ص).
في السابعة أيضا، تم افتتاح وادي القرى عنوة فتركت النخل والأرض في أيدي أهل الوادي وقسمت الأموال خمس لله والرسول وسهم ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وجرت في السنة الثامنة غزوة ذات السلاسل ثم غزوة قبيلة الأزد فأخذت الجزية من المجوس والصدقة من أغنيائهم وردت على فقرائهم.
بعد فتح مكة في السنة الثامنة (وفيها قسم ما كان في الكعبة من المال بين المسلمين) تمت غزوة بني جذيمة وفيها جرت فدية دماء أسرى القبيلة بالأموال، وتلتها معركة حُنين ضد قبيلة هوازن، ثم حصار ثقيف في الطائف. واختلفت قسمة حنين عن السابق إذ تنازل الرسول عما كان له ولبني عبدالمطلب ورد على هوازن خُمسه وأسقط سهم الأنصار وأثبت للمؤلفة قلوبهم سهما من الصدقات وأعطاهم (11 شخصا وقيل 12 شخصا) من قسمة الغنيمة. وبلغت غنائم هوازن 12 ألف ناقة وألف فارس ماعدا الأسلاب.
تمت في السنة التاسعة غزوة تبوك فصالح صاحب أيلة على الجزية (300 دينار)، وصالح أهل أذرح على مئة دينار، وأهل جرباء على الجزية، وصاحب دومة الجندل على الجزية. وأسلمت في هذه السنة الكثير من القبائل العربية وجاءت كتب ملوك حِمْيَر تقر بالإسلام فكتب إليهم يأمرهم بالحلال وينهاهم عن الحرام. وفيها نزلت سورة براءة التي نسخت ما قبلها من اجراءات وأقرت ترتيبات جديدة تتعلق بفرض الصدقات والزكاة والجزية وتمنع المشركين من الحج.
في السنة العاشرة كانت حجة الوداع وفيه وجه عمرو بن حزم إلى نجران وحمله كتابا لتعليمهم مبادئ الدين وأصول الشريعة وجمع صدقاتهم. وفيها جاء وفد نجران إلى المدينة وأراد المباهلة (الشفاعة)، وصالحوا الرسول (ص) على الجزية (80 ألف درهم في السنة).
بعد مصالحة أهل نجران وإسلام بني كعب تدفقت الوفود إلى المدينة تعلن إسلامها واستعملت قبيلة مُراد لأخذ صدقات مراد وزبيد ومذحج، وأسلمت قبيلة همدان في اليمن، وأرسل عماله إلى صنعاء وحضرموت وطيء وأسد وبني حنظلة وبني تميم ونجران وبني تغلب (صدقة مضاعفة) والبحرين لجمع الصدقات أو الجزية.
قبل رحيل الرسول (ص) كانت دولة المدينة استكملت شروطها التنظيمية والإدارية والقضائية والاقتصادية، فاكتملت الصورة في اللحظات الأخيرة وكان آخر ما نزل من القرآن «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا».
الخلفاء والعلماء
برحيله استخدم الخلفاء والعلماء ما أنزل، إلى جانب السُنة والكتب والمعاهدات (رسالتيه إلى البحرين واليمن مثلا)، كمصادر للقياس الفقهي في التطبيقات اللاحقة. فكان كتابه إلى أهل اليمن من أبرز المراجع في تنظيم الاقتصاد لأنه تضمن تحديدات تناولت كل المسائل من الزكاة، وخُمس الله، وسهم النبي والصفيّ، والعشر على ما سقي البعل وسقت السماء، وما سقي بالغُرب (الدلو) نصف العشر، إلى غيرها من تفاصيل كثيرة تناولت الصدقة (وهي زكاة تؤدى إلى فقراء المؤمنين في سبيل الله) والجزية على أهل الكتاب (دينار على كل حالم من ذكر وأنثى وحر وعبد).
استخدموا كذلك ما جاء في كتابه إلى همدان بعد إسلامهم فإن «لكم ذمة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم وأرض البور التي أسلمتم عليها سهلها وجبلها وعيونها وفروعها غير مظلومين ولا مضيق عليكم، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولأهل بيته إنما هي زكاة تزكونها عن أموالكم لفقراء المسلمين». وأيضا استخدموا كتبه إلى أهل هجر (فإذا جاءكم أمراؤكم فأطيعوهم وانصروهم على أمر الله وفي سبيله)، وأهل نجران (ولا يؤخد أحد بجناية غيره) وتضمنت شروط الصلح معهم على الفي حلة من حلل الأواقي «فما زاد أو نقص فعلى هذا الحساب ألف في صَفَر وألف في رجب» ومن «أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة».
كانت «المباهلة» مع أهل نجران حجة استخدمها الإمام علي بن ابن طالب (ع) في نقاشه مع خوارج «المحكمة الأولى» في نهروان، وهو سجال يعتبر من أولى المناظرات الكلامية الكبرى في تاريخ الإسلام. فالخليفة الراشد الرابع استخدم الواقعة في سياق سجالي لشرح موقفه من مسألة التحكيم، فذكر ما قاله الرسول (ص) حين دعا أهالي نجران إلى المباهلة: «تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين». فالرسول وبكلام الإمام علي «انصفهم بذلك على نفسه». وهو فعل الأمر نفسه إذ أراد النَّصفةُ (الانصاف) حين وافق على حكم الحكمين في معركة صفين. فأمير المؤمنين لجأ إلى السُنة لتوضيح الآيات المجملة (المبهمة) في القرآن الكريم، وتمسك بالحجة والأدلة والبراهين للدفاع عن موقفه وكسر وحدة الخوارج (الحرورية) وزعزع تماسكهم الإيديولوجي وتذرعهم بالنص المنزل لتبرير خروجهم عليه.
أوضحت الكتب والمعاهدات والرسائل الكثير من المسائل وتحديدا علاقة الإنسان بالدولة ومقدار حقوقه وواجباته والتزاماته فأسعفت العلماء والفقهاء والقضاة لاحقا في ترسيم حدود التعايش بين الدين والدولة والمجتمع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2212 - الخميس 25 سبتمبر 2008م الموافق 24 رمضان 1429هـ