العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ

أمم غير متحدة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

افتتاح الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة يشكل مناسبة للتعارف واللقاءات وإلقاء خطب تشرح للرأي العام مطالب الشعوب وتلك القضايا التي تؤرق مصالح الدول الكبرى. فالمناسبة الدورية تحولت إلى نوع من التقليد الذي لا يقدم ولا يؤخر ولكنها محطة لتبادل وجهات نظر وعرض حال للأزمات الكونية والإقليمية والمحلية. وعرض الحال لا يعني أن الأمم متوافقة على برنامج الأولويات ولكنها تبدو في المشهد المسرحي متساوية في حقها في إعطاء رأيها وتقديم تصوراتها الخاصة بشأن الملفات الساخنة والنقاط الحساسة والمشكلات العويصة التي تواجه الدول على مستوى الحكومات أو الشعوب.

كل دورة تعقدها الجمعية العامة للأمم المتحدة تختلف عن سابقتها في تفصيلات ومتشابهة في الكثير من النقاط الكبرى المشتركة. فالمشترك الإنساني يتوحد في ملفات كونية تتصل في سلسلة من الحلقات تتركز على دعوات تنبه من خطورة الأمية وانتشار الجهل والفقر والأوبئة والتصحر ونقص المياه وقطع الأشجار وارتفاع درجات الحرارة والعبث بالبيئة.

بعد هذه النقاط العامة تأتي سلسلة أخرى من الحلقات تحتل درجة ثانية من الاهتمامات الكونية المشتركة وهي في مجموعها تركز على ضرورة التعاون على ضبط الثروات الطبيعية وعدم استنزافها حرصا على التوازن البيئي إضافة إلى حث الدول الغنية على تطوير مساعداتها للدول الفقيرة حتى تنجح في مشروعات التنمية والحد من الفوضى وضمان حياة مقبولة لملايين من البشر وغيرها من نقاط يعاد تكرارها سنويا للتذكير بأن المشكلات تتفاقم وهي تهدد معيشة سكان الأرض وخصوصا المناطق التي تواجه مخاطر القحط والمجاعة والإيدز.

أخيرا تأتي سلسلة أخرى من الحلقات تحتل درجة ثالثة من الاهتمامات الدولية ولكنها في مجموعها ليست كونية وإنسانية مشتركة بل تعكس رغبات ومصالح وهواجس ومخاوف إقليمية أو محلية. والسلسلة الأخيرة غلى رغم احتلالها المركز الثالث في الخطابات الدورية إلا أنها عمليا تشكل الإطار الصحيح الذي يمكن الاطلاع منه على السياسات الدولية التي ستأخذ الوقت المطلوب من اهتمامات الدول الكبرى. فهذه السلسلة ليست عامة ولا تتحدث عن القضايا بالتساوي الأفقي وإنما هي تتعرض إلى حلقات خاصة تبحث في الموضوعات بأسلوب عمودي ومغاير لذاك الكلام الإنشائي عن الفقر والجوع والتصحر والجهل والأمية والأوبئة والبيئة.

السلسلة الثالثة تشكل عصب السياسة في خطابات رؤساء الدول الكبرى أو أصحاب الحكومات الإقليمية التي تعاني من مشكلات مباشرة وأزمات حقيقية. ومن هذه السلسلة يمكن رصد تموجات السياسة الدولية واختلاف أولوياتها بين دورة وأخرى. ففي كل دورة للجمعية العامة يحرص رؤساء الدول الكبرى على استعراض همومهم وهواجسهم وتقديم نصائح للحلول أو تبيان معضلات ترى عواصم القرار بأنها تحتل درجات متقدمة في برنامج الأولويات.

بين دورة ودورة يمكن التقاط ذاك الخيط السحري الذي يربط مصالح الدول الكبرى ويفرقها. فالخطابات التي تُلقى تشكل مجتمعة برنامج عمل تخطط له هذه العاصمة الدولية أو تلك خلال السنة المقبلة. ومن تلك الخطابات تتوضح صورة العالم في سياق التنافس على المصالح أو في إطار ترسيم نقاط ارتكاز تشكل خريطة طريق لسياسة الدولة في الشهور والأسابيع الآتية.

أهم خطابات الدورة السنوية تكون تلك التي يلقيها رؤساء الدول الكبرى لأنها تتضمن فقرات عامة تشمل الكثير من القضايا الدولية الساخنة. وبعدها تأتي خطابات رؤساء الدول الإقليمية التي تستعرض مشكلات خاصة معطوفة على مخاوف متأتية أو ناجمة عن مخاطر قد تصدر عن الدول الكبرى أو المجاورة. وأخيرا تأتي خطابات رؤساء الدول الصغيرة التي تقتصر على استعراض مشكلاتها وتطالب القوى القوية والقادرة على مساعدتها في تخطي عثراتها ودعمها للتنمية وتجاوز العقبات التي تعطل إمكانات احتواء تلك الأزمات الاقتصادية أو الأمنية.

طبقات من الأمم

خطابات الأمم المتحدة الدورية تشبه في بنيانها الكلامي هندسة الأهرامات. فهناك الفوق (الأول) ثم طبقة ثانية تتألف من أربع دول، ثم ثالثة ورابعة وخامسة نزولا إلى قاعدة الهرم (الطبقة الأوسع) التي تتشكل منها عشرات الدول. وهذا التراتب الهرمي للدول يؤكد على أن الشعوب ليست متساوية إلا في المبنى المشترك بينما همومها ومصالحها وهواجسها فهي متخلخلة في التوازن ومتضاربة في الرؤية والحلول. ولهذا السبب تبدو المشكلات الإنسانية الكونية المشتركة مجرد نقاط عامة تثير القلق ولكنها ليست تلك القوة الدافعة التي تحرك الدول الكبرى وتؤرقها أو تزعجها. وللسبب المذكور أيضا تبدو المشكلات المشتركة التي تستعرضها الدول سنويا ودوريا في خطاباتها العامة تزداد سوءا. فالكلام عن الفقر والجهل والأمية والمجاعة والأوبئة والصحة والأمراض والجفاف والتصحر والبيئة يتكرر سنويا ولكنه يزداد خطورة دورة بعد دورة. والأحاديث المتتالية التي تتناول برامج المساعدات والرعاية والدعم ورصد الأموال لاحتواء مخاطر اتساع رقعة الفقر ونمو الفجوة الاقتصادية بين الدول الغنية والنامية تبدو مجرد كلام يعاد إنتاجه دوريا في وقت ينزلق العالم نحو المزيد من التمييز والتفرقة المتمثل في تطور النمو المتفاوت بين الشعوب والاختلال الطردي المتصاعد في توزيع الثروة. فالأغنياء تزداد ثرواتهم والفقراء تتسع طبقتهم في أسفل قاعدة هرم الأمم المتحدة.

قاعة الجمعية العامة تشبه كثيرا ذاك السيرك الجميل الذي يعطي فرصة للدول بأن تقول ما تريده وتعلن ما تفكر به وتشرح ما تعانيه من مشكلات تهدد وحدتها وأمنها ومصيرها... وبعدها يأتي دور الراعي الكبير الذي يدير اللعبة ويتدبر أمر الكثير من الدول الصغيرة التي تدرك فعلا من هو الطرف المسئول أو الشريك في تدوير أزماتها ومفاقمتها دوريا. المبنى واحد ولكن الأمم ليست متحدة حتى في خطابات الجمعية العامة.

استعراض السيراك السنوي لا يقلل من أهمية تلك الخطابات الدورية التي يحرص رؤساء الدول الخمس الكبرى على إطلاقها من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة. فخطابات الدول الكبرى تكشف عن أولويات تشكل حساسية مباشرة لمصالحها. الرئيس الأميركي مثلا اختلفت خطاباته دوريا بين سنة وأخرى. وما كان يقوله قبل ثلاث سنوات تراجع قليلا ليرتفع مكانه ما كان لا يقوله في تلك الفترة. فالرئيس جورج بوش تحدث في خطابه الأخير هذه السنة عن النقد وأزمة المال التي تعاني منها الأسواق، ومثل هذه الإضافة تشكل إشارة ضوئية على وجود قلق من احتمال تطور المأزق واتساع نطاقه الكوني. فالخطر من الأزمة النقدية احتل مرتبة متقدمة على «الخطر الإرهابي» ما يعني أن واشنطن بدأت ترتب ملفاتها الدولية وفق تصور لا يتناسب مع تلك الهواجس التي دأب بوش على إطلاقها دوريا. خطاب بوش تناول معظم النقاط وتطرق إلى مختلف القضايا إلا أن «الشرق الأوسط الكبير» تراجع قياسا بخطاباته السابقة بسبب دخول مجموعة ملفات ساخنة كشفت عن وجود توجهات أميركية جديدة في التعامل مع المسارات الدولية التي اتسعت وتنوعت ألوانها وتعددت مفارقها ومنعطفاتها.

ما ينسحب على خطاب بوش يمكن رصده في اختلاف خطاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن ذاك الذي ألقاه في العام الماضي. والاختلاف ليس في غياب نقاط وظهور أخرى وإنما في ترتيب النقاط وجدولتها في برنامج الاهتمامات. فساركوزي بدوره أعطى أهمية للنقد وأزمة أسواق المال بناء على المعطيات التي ظهرت على شاشات البورصة في الأسبوعين الماضيين.

المال قبل الجوع ومكافحة الأمراض في خطابات رؤساء الدول الكبرى بينما الأمور الإنسانية الأخرى تحتل أولوية في مجمل خطابات الدول الصغيرة والمسكينة التي تبحث عن النجدة «المالية» لإنقاذها من الإفلاس والانهيار. وهذا الاختلاف في الاهتمامات يعطي صورة حقيقية عن هرمية العلاقات بين الأمم في ذاك المبنى الدولي في نيويورك.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً