أحدثت الانتصارات العسكرية في السنة الثامنة تحولات سياسية كبيرة في الجزيرة العربية وازداد انتشار الإسلام في مختلف القبائل والبطون، واستقطبت الدعوة الكثير من رجال النخبة وخصوصا الفئات المثقفة من شعراء وغيرهم. فأسلم مثلا، في السنة التاسعة، كعب بن زهير وعفا الرسول (ص) عنه «إذ لا يأخذ مع الإسلام بما كان قبله» وكساه بُردة كانت عليه.
السنة التاسعة
أقام الرسول (ص) بعد عودته من الطائف في المدينة فجاءت الأخبار أن هرقل يجهز جيشه وعزم على غزو المسلمين فأمر الناس بالاستعداد لتوجيه حملة عسكرية ضد البيرنظيين في الشام. كان الحر شديدا والناس في عُسرة ويقال إنهم تجهزوا على كره فسمى الجيش «جيش العُسرة».
شمت المنافقون من جيش المسلمين وسرت شائعات في المدينة بأن الهزيمة مؤكدة واقتربت نهاية الدعوة، فأخذ هؤلاء يرتبون أوضاعهم لمفاوضة هرقل على التركة. وظن المنافقون أن القوة الجديدة تستطيع كسر شوكة قريش لكنها غير مجهزة ومدربة كفاية لتقوى على مواجهة قوات ضخمة ومدربة وتمتلك السلاح والعتاد ولها خبرة طويلة في الحروب النظامية.
وصل جيش المسلمين إلى تبوك وبدأ يفاوض على الصلح. فصالح صاحب أيلة يوحنا بن رؤبة على الجزية (بلغت 300 دينار) وكتب له كتابا. وصالح أهل أذرح على مئة دينار، وأهل جرباء على الجزية، وأهل سفنا على ربع ثمارهم. وأرسل خالد بن الوليد إلى صاحب دومة الجندل أكيدر بنت عبدالملك (من قبيلة كندة) فقبض عليه وصالحه على الجزية وأفرج عنه.
انتظر رسول الله (ص) عشرة أيام في تبوك قدوم القوات البيزنطية، وأعوانها من القبائل العربية، ولكنها لم تأتِ فعاد إلى المدينة وقبل وصوله بلغه خبر «مسجد ضرار» الذي بناه المنافقون (12 منافقا) للتنصل من الدعوة في حال انتصر هرقل واجتاح الجزيرة، فأرسل مالك بن الدُّخشم فهدمه وحرقه وصفح الرسول (ص) عنهم وقبل توبتهم.
جاءت خطوة هدم مسجد ضرار، بعد غزوة تبوك، لتزيد من هيبة المسلمين وقوتهم. فالرسالة واضحة، والدعوة لا تقبل التردد ومعها لا مجال لازدواجية الانتماء والقرار والسلطة. وتحولت هذه الخطوة إلى سُنَّة اتبعها المسلمون. فالجماعة يقودها أمير واحد والأمة يجب أن تتفق على خليفة واحد.
ساهم هدم «مسجد ضرار» في تعديل موازين القوى، فما يصحّ على مسجد المنافقين يصحّ على غيره، فاتبعت السُنة نفسها حين جاء وفد ثقيف ليفاوض الرسول (ص). واشترطوا مقابل دخول الدعوة ترك صنمهم اللات ثلاث سنين لا يهدمه فرفض، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة فأبى. وعاد الوفد ومعه المغيرة بن شُعبة وأبوسفيان بن حرب وهدما اللات وأسلمت ثقيف. بعد اللات جاء دور صنم الفلس فأرسل علي بن أبي طالب في سرية إلى ديار طيء فأغار عليها فغنم وكسر الصنم وأسلم عدي بن حاتم.
اشتد عود الدعوة وأدركت القبائل أنه لا مساومة في الدين وأن خياراتها محدودة ولا تقوى على المواجهة بعد أن افتتحت مكة والطائف وأسلمت قريش وثقيف. فقدمت وفود بني أسد، وبَلي، والزاريين، وبني تميم، وبهراء، والبكاء، وفزارة، وثعلبة، وبني بكر إلى المدينة تعلن البيعة وتشهر إسلامها. وجاءت كتب ملوك حِمْيَر تقرّ بالإسلام فكتب إليهم يأمرهم بما عليهم وينهاهم عما حرّم عليهم.
كانت السنة التاسعة حاسمة في تاريخ الدعوة. ففيها نزلت «سورة براءة» فنسخت ما قبلها من إجراءات وأقرّت ترتيبات جديدة تتعلق بفرض الصدقات والجزية وتمنع المشركين من الحج. فالسنة التاسعة كانت الأخيرة التي حج فيها المشركون على عادتهم في الجاهلية، إذ حرموا بعدها من الحج أو الطواف بالبيت، فأسلم الكثير من الناس قبل موعد السنة التالية.
السنة العاشرة
كانت العاشرة سنة الوداع. ففيها كانت حجة البلاغ وفيها بدأت تنتظم هياكل الدولة وباتت المدينة مرجع الجزيرة وعاصمتها. فترسخت سلطتها من خلال بعثات الرسول (ص) وعماله إلى القبائل والمناطق والمدن لتبليغ الدعوة وتعليم الدين وإقامة القضاء والفصل في الخلافات وتنظيم الجباية من صدقات وجزية وخراج.
جاءت التطورات كلها لتؤكد قوة الإسلام في الجزيرة وتجهز عدته للانطلاق إلى خارجها. ففي تلك السنة أرسل خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب في نجران فدعاهم إلى الإسلام فاستجابوا، فأرسل عمرو بن حزم لتعليمهم مبادئ الدين وأصول الشريعة ووجه معه كتابا. وجاء وفد من أهل نجران إلى المدينة وصالحوا على 2000 حُلّة (كل حُلّة 40 درهما) وجعل لهم في ذمة الله وشرط عليهم ألا يأكلوا الربا أو يتعاملوا به.
بعد إسلام الحارث بن كعب ومصالحة أهل نجران على الجزية تدفقت الوفود إلى المدينة من سلامان وغبشان وعامر والأزد وطيء وجُرش وعبد قيس وبني حنيفة وكندة والرهاويين (بطن من مذحج) وخولان تعلن إسلامها. وحين وقعت خلافات قبلية بين مُراد وهمدان من ملوك كندة لجأت مُراد إلى المدينة للشكوى فأسلمت واستعمل أميرها لأخذ صدقات مُراد وزبيد ومذحج. وبعث الرسول (ص) علي بن أبي طالب مع كتاب إلى أهل اليمن فأسلمت همدان، وأرسل في الفترة نفسها عماله إلى صنعاء وحضرموت وطيء وأسد وبني حنظلة وبني تميم والبحرين ونجران لجمع الصدقات أو الجزية وتعليم الناس أصول الدين وتنظيم القضاء.
كانت الدولة تنمو في مختلف قطاعاتها المالية والقضائية والتربوية في وتيرة تتناسب مع انتشار الدعوة، فبدأت تتوضح المعالم من خلال الإجراءات السياسية والإدارية والترتيبات الاقتصادية والعسكرية التي حملتها كتب الرسول مع البعثات والعمال والأمراء إلى مختلف الجهات في الجزيرة.
في تلك السنة كانت الحجة الأخيرة (حجة الوداع) عاد بعدها إلى المدينة وأمر أسامة بن زيد بتجهيز حملة إلى الشام (البلقاء والداروم من أرض فلسطين) في خطوة سيكون لها تأثيرها الحاسم في تعزيز فكرة الفتوحات الكبرى والتشجيع عليها. وقبل إنفاذ بعثة أسامة مرض الرسول (ص) في نهاية صفر من سنة إحدى عشرة من الهجرة، فتأخر مسير أسامة وجاءت أخبار الردة في وقت واحد.
أربك مرض الرسول (ص) البعثة وترددت في تحركها بعد أن هب ثلاثة يدَّعون النبوة: الأسود العنسي (اليمن) ومسيلمة الكذاب (اليمامة)، وطليحة (بني أسد).
احتار المسلمون بعد انتشار خبر مرض الرسول (ص) وتواتر أخبار الردة أي أمر له الأولوية: فتح الشام أو مكافحة الردة. وحسم الرسول (ص) الأمر وهو على فراش المرض، فخرج عاصبا رأسه، من شدة الصداع، وأمر بإنفاذ جيش أسامة، وأرسل نفرا من الأنصار في أمر الأسود العنسي. فالمرض لم يشغله عن أمر الفتح لنشر الدعوة. وهكذا كان.
رحل الرسول (ص) في ربيع الأول من العام 11 للهجرة فاهتزت مشاعر المسلمين ودبت الفوضى فخرج الخليفة الأول (رض) وقال للناس: «أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت». وكانت البيعة وخطب أبوبكر الصديق فيهم «خطبة البيعة» داعيا للجهاد. فأرسل جيشا بقيادة أسامة بن زيد إلى الشام فأغار على حدودها وعاد إلى المدينة.
بعدها اندلعت حروب الردة حين رفضت بعض قبائل الجزيرة دفع أموال الزكاة فأرسل الخليفة جيشا بقيادة خالد بن الوليد ودارت معركة اليمامة ضد قوات مسيلمة فتشتت المرتدون وسقط زعيمهم مقتولا.
استمرت حروب الردة قرابة العام نجح فيها المسلمون في محاصرتها وخسروا فيها الكثير من الصحابة (أصحاب الرسول) وحفظة القرآن... وبعد القضاء على الردة تابعت الفتوحات مسارها التاريخي ممتدة من مشرقه إلى مغربه وصولا إلى حدود الصين شرقا وإسبانيا وجنوب فرنسا غربا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2205 - الخميس 18 سبتمبر 2008م الموافق 17 رمضان 1429هـ