بدأ العمل التطوعي النسائي في البحرين منذ مطلع الخمسينات، وكان ذا سمة خيرية ورعائية في الغالب. ومعظم من مارسنه كنَّ من الطبقة الوسطى والعليا من المجتمع نتيجة اطلاعهن على التجارب النسائية التطوعية في البلاد العربية.
ولقد تعددت مجالات انخراط المرأة في العمل التطوعي وتنوعت لمدى خمسة عقود من الزمن. حاولت الجمعيات النسائية التي تشكلّت لاحقا الخروج بعض الشيء عن الاهتمامات التقليدية (الخيرية والرعائية) للمرأة ودعت لايجاد أساليب جديدة للعمل الاجتماعي بشكل عام والنسائي بوجه خاص، وأبدت بعض الاهتمام بحقوق المرأة وقضاياها والدفاع عن مصالحها ومحاولة الدفع لاستصدار القوانين المنظمة لشئون الأسرة مثل قانون الأحوال الشخصية، حق المرأة في ساعة الرضاعة، محو أميتها، تنظيم برامج التوعية الأسرية وتبني بعض مشكلاتها الأسرية أو الزوجية، ومحاولة رفع مستواها الثقافي والعلمي لتأهيلها وتمكينها من الاندماج في عملية التنمية الشاملة والمستدامة.
لقد قدمت المرأة عبر تاريخ العمل التطوعي الكثير ومازالت ولكنها أيضا عانت الكثير، لم يكن جهد المرأة التطوعي يوما ترفا بل كان ضرورة وكان واجبا وطنيا اضطلعت به المرأة بكل جدارة ولكن ليس بدون ثمن.
ان هناك الكثير من العوامل التي يجب أن تخضع للمناقشة والبحث في هذا السبيل، إذا أريد للمرأة أن تسهم بشكل فاعل في ميدان الشأن العام وحتى تكون أداة فاعلة من أدوات التنمية.
من هذه العوامل الآتي:
1- ازدواجية المعايير في المجتمع، إذ ان المجتمع البحريني كأي مجتمع تقليدي عربي آخر يمارس نوعا من الاستبداد المباشر في بعض الأحيان وغير المباشر في أحيان أخرى. هذا الاستبداد يتبدى في القيود التي يضعها على أدوار المرأة غير التقليدية (ونعني بها اسهاماتها خارج المنزل).
فهو من جانب يقبل بأن تسهم المرأة في الشأن العام ولكنه في الوقت نفسه لا يقبل (إلا على مضض وفي بعض الأحيان) بأن تتأثر أدوارها التقليدية، بل ويسارع إلى أدانتها وتحميلها أنواع المسئولية كافة لو حدث أي تقصير أو نقص. ان توزيع الأدوار غير المتكافئ داخل الأسرة نتيجة للتوقعات التقليدية السائدة في المجتمع أدى في أحيان كثيرة الى تضارب الأدوار التي تقوم بها المرأة، كما أدى إلى أن تتحمل المرأة وحدها تبعية هذه الازدواجية وتكون وحدها الملومة والمقصرة. لذلك هناك فئة كبيرة من النساء تعاني من التأزم النفسي والقلق والاكتئاب إلى جانب ميلهن إلى أن يلقين اللوم على أنفسهن وهذا يقودهن بالتالي إلى التخلي عن طموحاتهن ومساهماتهن في الشأن العام وتفضيل البقاء في المنزل. وهذا كله يكرس الاحساس بالسلبية والتقاعس لدى فئة من النساء ويخلق لديهن احساسا بالعجز والدونية.
2- يقر المجتمع عبر دستوره وقوانينه أحقية وأهمية عمل المرأة (الرسمي والأهلي) باعتبارها رافدا أساسيا من روافد التنمية، ولكنه (أي المجتمع) لا يمنحها أي امتيازات يمكنها أن تسهم في التخفيف من أعبائها. فنجد المرأة تعمل خارج المنزل وتعمل داخله وما يتبقى لها من وقت تخصصه للعمل التطوعي وهو ليس بالكثير. وهذا مدعاة لاحساس المرأة بالضغوط النفسية والتوتر والقلق.
3- على رغم الاحتفاء الكبير الذي نشهده من قبل المجتمع بالنسبة للعمل التطوعي إلا أن قيمة هذا العمل وأهميته ليست متأصلة كما ينبغي لها أن تكون، ففي كثير من الأحيان ينظر للعمل التطوعي على أنه حسنة أو منّة من الأفراد على المجتمع، وليس واجبا واسهاما وطنيا في خدمة هذا المجتمع ورقيه. لذا فالانخراط فيه وممارسته لا يأتيان ضمن أولويات الأفراد نساء ورجالا.
4- حتى تكون ممارسة المرأة للعمل التطوعي فاعلة فانها تحتاج إلى دعم الرجل ومؤازرته لها، وهنا فاننا بصدد ثلاثة أنماط من السلوك لدى الرجال تؤثر بشكل كبير على حجم وعطاء المرأة واستمرارها في ميدان العمل التطوعي.
أولا: فئة من الرجال تدعم اسهام المرأة وتشجعه وتحاول أن تبرز للمرأة أدوارا ومكانة متميزة، ولجهود هذه الفئة المتميزة من الآباء والاخوة والأزواج والزملاء في الشأن العام، تدين المرأة بالتقدير والعرفان لان هؤلاء الاشخاص هم الرافد والداعم الحقيقي لكل نجاحات المرأة التي حققتها أو ستحققها مستقبلا. ولكن مع الأسف هذه الفئة قليلة حتى أن سلوكها هذا يكون مدعاة للانتقاد من قبل الآخرين.
ثانيا: هناك من يعارض مباشرة وبشكل سافر أي اسهام للمرأة أو تطور لها ويستعين على وجهة نظره هذه بكل ما تشكل واستقر في وعيه من الموروثات والقيم والعادات والتقاليد والقيم، إلى آخره من المسوغات التي تعزز وجهة نظره.
أما النموذج الثالث والذي اعتبره أنا الأخطر، فهو لا يعارض طموح المرأة واسهامها في الشأن العام ولكنه يقيدها بطريقة غير مباشرة ويكبل خياراتها بقيود وهمية مثل الحب لها أو الخوف عليها أو التقدير لمكانتها وتكريمها، والكثير من المسوغات التي تهدف في النهاية إلى الحد من عطاء هذه المرأة وباقتناعها. هذه التخديرات التي تمارسها هذه النوعية من الرجال هي نوع من الغطاء الذي يخفي حقيقية أنهم في النهاية لا يريدون لهذه المرأة دورا إلا في حدود ما يرسم لها. هذا النموذج اعتبره خطرا لأنه يتبع أساليب غير مباشرة ويتعامل بالعواطف والمشاعر، وهو ينجح كأسلوب ملتوٍ في تحجيم عطاء المرأة والحد من طموحها بل إنه ينجح في أن يجعل المرأة نفسها تتبنى هذا الموقف وتصبح هي أكبر مدافع عنه، والأمثلة في مجتمعنا هذا أكثر من أن تحصى. ان النموذجين الثاني والثالث هما الغالبية مع الأسف.
5- تعاني المرأة من الكثير من المشكلات الأسرية والاقتصادية والتي تجعل أمر مشاركتها في أي عمل تطوعي غير وارد، فهي تحتاج لمن يعينها ويأخذ بيدها، وهنا مع الأسف فان الجمعيات التي هدفت لتحسين وضع المرأة لم تستطع أن تحقق الكثير لهذه الفئة بسبب الكثير من الأسباب التي لا مجال للخوض فيها هنا. فكم من النساء يعانين من العنف العائلي بشتى صوره الجسدية والنفسية والعاطفية ويخضعن لأبشع صور الاستغلال وأطفالهن.
6- هناك فئات من النساء خصوصا من أجيال السبعينات والعقود اللاحقة، ليس للعمل التطوعي لدى الكثيرات منهن أي صدى طيب وهن يمثلن بحق الفترة التي انكب فيها أفراد المجتمع على تحقيق المصالح الذاتية على حساب الشأن العام (أذكر في هذا المجال الدعوات المتكررة من قبل الكثير من الجمعيات لسنوات متلاحقة لأجيال من الخريجات لتعريفهن بالعمل التطوعي ومحاولة اجتذاب اهتمامهن بالشأن العام، وجل هذه المحاولات كانت فاشلة).
هذه جملة من أسباب متعددة ومتنوعة في تأثيرها على نفسية المرأة واقبالها أو عزوفها عن المشاركة في الشأن العام. وعلى رغم كل هذا كان عطاء المرأة عبر السنوات متميزا على رغم الاحباطات والمعوقات. وأنا أعتقد أن النخب النسائية تعي أن المهمات الآن باتت أمامها أكبر مما كانت عليه سابقا، فالمشاركة الآن امتدت إلى صنع القرار وتحديد المصير ورسم السياسات المستقبلية للأفراد والوطن. فالمشاركة السياسية هي من أهم المشاركات في الشأن العام. ان ما حدث في الانتخابات البلدية وما يتوقع حدوثه في الانتخابات النيابية بالنسبة للمرأة يعكس الأسلوب المراوغ والخطيرمنها والذي كنت أتحدث عنه سابقا.
لهذا فان على جمعيات النفع العام وخصوصا الجمعيات النسائية أن تعمل على الارتباط الوثيق بالمجتمع وبالنساء على وجه الخصوص. إن تمكين المرأة ودفعها إلى أخذ مكانة متقدمة قضية تتطلب تضحيات من قبل المرأة، لذا فانها يجب أن تحظى بالدعم والمساندة الحقيقية حتى تزداد ثقتها بنفسها وتتمكن من أداء دورها كمواطن كامل الأهلية وشريك فاعل في عملية التنمية والتطور
العدد 22 - الجمعة 27 سبتمبر 2002م الموافق 20 رجب 1423هـ