أثار انفجار انتفاضة الأقصى ارهاب الإسرائيليين الدفين. ويعاني الإسرائيليون من انقسام في الشخصية: نصف خائف ونصف متغطرس، والذي عبر عن نفسه بهذا التوحش: استخدام الدبابات والمروحيات وقاذفات اف 16 والزوارق الحربية والرشاشات الثقيلة ضد المدنيين، حصار اقتصادي وتضييق معيشي، هدم بيوت، اقتلاع أشجار، تجريف الأراضي الزراعية، منع دخول المواد الغذائية والأدوية، اغتيال القادة العسكريين والسياسيين، وأخيرا نسف بيوت الاستشهاديين، وإبعاد ذويهم من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، والذي عكس، إلى حد كبير، عنف الخائفين، العنف الأكثر وحشية ودموية.
عكست وحشية الإسرائيليين ضد الفلسطينيين مأزقا إسرائيليا حادا ترتب على حال انسداد أفق، بعد أن وجدت إسرائيل نفسها، بعد أكثر من نصف قرن، أمام حقيقة صلبة: ثمة ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنها أمام أحد خيارين يقوض كل منهما أسس العقيدة الصهيونية: ضم الفلسطينيين إلى إسرائيل، أو التنازل لهم عن جزء من «أرض إسرائيل» فهي لا تستطيع ضمهم إليها ومنحهم الجنسية الإسرائيلية لأن ضمهم ومنحم الجنسية يغير طبيعة الدولة ويحولها إلى دولة ثنائية القومية، خاصة وإن تقديرات الخبراء الإسرائيليين تتوقع أن يصبح الفلسطينيون العام 2020 أكثرية (58 في المئة) من السكان، ولا تستطيع التنازل لهم عن جزء من «أرض إسرائيل» وتركهم يقيمون دولتهم الخاصة عليها والعيش فيها باحترام إلى جانب إسرائيل، لأن التنازل عن جزء من «أرض إسرائيل» ينهي أسطورة أرض الميعاد، خصوصا وأن الضفة الغربية (يهودا والسامرة حسب التسمية الإسرائيلية) هي الأرض التي قامت عليها، بحسب رواية التوراة، مملكتا داود وسليمان.
لقد حطم الحضور الكثيف للحقيقة الفلسطينية أهم الأساطير المؤسسة للدولة اليهودية أسطورة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بعد أن سعت إسرائيل لعقود إلى تغييب الشعب الفلسطيني كواقع تاريخي/ اجتماعي/ ثقافي، ووضع الدولة اليهودية أمام سؤال الوجود.
كما دفع انسداد الأفق إسرائيل إلى التوقيع على اتفاقات سياسية مع الفلسطينيين وإلى التنصل منها، وعدم تنفيذ الاستحقاقات المترتبة عليها، وإلى انتقال قوى «السلام» الإسرائيلية (بيريز في مجزرة قانا، باراك الذي وعد ناخبيه بإنهاء الصراع وأعادهم إلى مواجهة أشد عنفا، حركة السلام الآن التي طالبت القيادة الفلسطينية بالقبول بالعروض الإسرائيلية بغض النظر عن مضمونها) إلى قوى وتشدد ومجابهة، لقد هرب الجميع إلى حصن ما يسمونه «الإجماع الوطني» كما دفع إسرائيل إلى قطع الطريق على المفاوضات حول قضايا الحل الدائم والعمل على تشتيت الكيان الفلسطيني قيد التشكيل وتفكيك الاجتماع الفلسطيني عن طريق تقطيع الضفة الغربية إلى (60 قطعة) وقطاع غزة إلى (4 قطع) وحصر الفلسطينيين في دوائر حركة لا تستجيب للحياة البشرية وإطلاق يد الجيش في التصرف لجعل حياة الفلسطينيين داخل هذه المعازل أكثر صعوبة.
لقد تصاعدت حدة الخطاب اليميني في إسرائيل بالحديث عن استكمال حرب «الاستقلال» والتحق اليسار والوسط بمعسكر اليمين في إطار ما سمي بالإجماع الوطني، وزاد التنسيق بين الجيش والمستعمرين، وشكل المستعمرون حركة الحارس لحماية المستعمرين على الطرق والدفاع عن المستعمرات وازدادت شعبية القاتل شارون على رغم تصاعد حدة النقد له لأنه لم يأت بالأمن إلى الآن ودعوته إلى حسم الصراع عبر إعطاء الجيش فرصة تحقيق «النصر».
خطوات شارون
في مواجهة الانتفاضة
اعتمد شارون في مواجهة الانتفاضة خطة مركبة من مستويات عدة:
1- إطلاق يد القيادة العسكرية للقيام بما تعتقد أنه ضروري لسحق الانتفاضة بصرف النظر عن المترتبات السياسية لذلك. وهذا قاد إلى سلسلة متواصلة من العمليات العسكرية «النوعية» شبه النظامية، بعد أن تم استبدال «ضربات محدودة ونوعية» «بالضربة الواحدة» الحاسمة، لتحقيق الخطة نفسها والأهداف نفسها.
2- تبني ما سمي بـ «الدفاع الذاتي النشط» بالرد على العمليات الفلسطينية واغتيال القيادات العسكرية والسياسية، خيارا أوليا يمكن التحول عنه إذا ما فشل في تحقيق هدفه المركزي: إنهاء كارثة أوسلو أو استخدامه في تهيئة الأرضية للخيار الآخر عملية عسكرية شاملة، فالخطة تستدعي تحويل المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية إلى جزر محاطة بقوات إسرائيلية وتصفية هياكل السلطة الفلسطينية وقتل القادة لدفع الأوضاع إلى تسلم جيل جديد غير ملتزم باتفاقات أوسلو أو بالاعتراف بين الشعبين.
3- تحريك الآلة الدبلوماسية والسياسية والإعلامية الإسرائيلية والصهيونية والمسيحية الصهيونية لتسويق السلوك العسكري الإسرائيلي، وإعطائه غطاء دوليا عبر تصويره على أنه ردّ على اعتداءات فلسطينية على إسرائيل أو لمنع اعتداءات بالضربات الاستباقية، مع الإعلان عن الاستعداد للدخول في مفاوضات سياسية مع السلطة بعد وقف «العنف» الفلسطيني ومطالبة العالم بالضغط على الرئيس عرفات لوقف العنف واعتقال النشطاء من حركتي حماس والجهاد ولجم أعضاء تنظيم فتح، ومطالبة أميركا بوضع اسم حركة فتح والرئيس عرفات على قائمة الارهاب.
4- تركيز الحملة السياسية والإعلامية على الرئيس ياسر عرفات وتحميله مسئولية العنف واتهام أجهزة السلطة الوطنية الفلسطينية وخصوصا الأمن، بالقيام بعمليات تصنيع أسلحة، ورعاية العمليات الاستشهادية والتشجيع على قتل «المستوطنين»، والمطالبة باستبدال الرئيس عرفات وإجراء إصلاحات كبيرة في الأجهزة الأمنية والسياسية، وربط التحرك السياسي بهذا الشرط كوسيلة لتجميد الوضع عند هذه النقطة لأن القاتل/ شارون لا يريد التقدم نحو الحل، ولا المغامرة على حساب شعبيته ومستقبله السياسي.
5- تبني ما اصطلح على تسميته بـ «منطقة التماس» القاضية بإقامة حاجز بين الشعبين كأسلوب لعزل الفلسطينيين في معازل (بانتوستانات) على 42 في المئة من أراضي الضفة الغربية وإطلاق اسم دولة عليها لإسكات المجتمع الدولي وسلب بقية الأراضي.
أراد شارون بسياسته احتواء المكاسب الفلسطينية التي تحققت في مجالات رفع الاهتمام الدولي حول الأوضاع عموما والاستعمار خصوصا، ووقف التدهور الحاصل على الأرض وخصوصا بعد أن أظهر المجتمع الإسرائيلي حالة من حالات الذعر والقلق تتناقض مع التصريحات المتغطرسة، وتحسس الإسرائيليون هشاشة تصوراتهم بعد أن أعادت تطورات الصراع العسكرية والسياسية بعث جوهر الصراع: قضية أرض وحق تاريخي إلى الصدارة وبعد انكشاف حدود القوة الإسرائيلية، بعد الصمود الفلسطيني الأسطوري، في مواجهة الانتفاضة.
كل هذا مع التركيز على قضية «العنف»، من جهة والقبول بتوصيات تقرير لجنة ميتشل وتوصيات خطة تينت واستخدام توصيات الأخيرة، التي ركزت على وقف إطلاق النار وجمع السلاح الفلسطيني غير «الشرعي» واعتقال نشطاء حماس والجهاد، للتغطية على عدم الالتزام بتوصيات لجنة ميتشل واستخدام توصيات لجنة ميتشل للتغطية على تنصلها من تنفيذ استحقاقات اتفاق أوسلو، واستخدام استحقاقات اتفاق أوسلو للتغطية على عدم الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ذات الاختصاص، والتظاهر بقبول فكرة إرسال مراقبين دوليين التي دعت إليها قمة الدول الصناعية في جنوة وربط تحفظها على الفكرة باعتبارات واقعية لا باعتبارات مبدئية، خصوصا بعد أن أخرجها كولن باول من مأزق الالتزام بالقرار عندما أضاف إلى النص عبارة «بموافقة الطرفين» الأمر الذي منحها حق النقض بالإضافة إلى خلو القرار من أي تحديد لطبيعة المراقبة.
وبعد حوادث سبتمبر/أيلول والعدوان الأميركي على أفغانستان، طوَّر شارون هجومه على الفلسطينيين بربط النضال الفلسطيني بالإرهاب وعملياته ضد الفلسطينيين والسلطة الوطنية الفلسطينية عامة، والرئيس عرفات خاصة، بالحرب الدولية على الإرهاب، وقد حصل في عدوانه الوحشي على القيادة والشعب الفلسطينيين على تأييد أميركي غطاه دبلوماسيا وسياسيا.
ربطت تقديرات المحللين بين تبني هذه السياسة وبين مساع إسرائيلية لتحقيق هدفين هما:
أ- هدف استراتيجي يتعلق بكيفية الخروج من حال الاستنزال التي تشل إسرائيل وتنهكها وتهدد في كل لحظة بتدويل الأزمة، الأمر الذي تهابه إسرائيل، وتقاومه بكل الوسائل والإمكانات.
ب- هدف وجودي يتعلق بكون الانتفاضة، بزخمها وأهدافها، تهدد بعض الثوابت الإسرائيلية ومنها استمرار الاحتلال و«الاستيطان» كما أنها - الانتفاضة - قد أحيت وبقوة، الهوية الوطنية الفلسطينية لعرب إسرائيل الأمر الذي تعتبره إسرائيل تهديدا خطيرا لسلامها الاجتماعي.
غير أن اعتماد شارون على خطة الأرض المحروقة واستنزاف الفلسطينيين حتى يرضخوا لشروطه، وعدم امتلاكه استراتيجية لما بعد المجابهة، سيجعله عرضة للسقوط، إذا ما نجح الفلسطينيون في امتصاص ضرباته وتعويض الخسارة، وقد أثبتوا أنهم قادرون على ذلك، وقد لمس الإسرائيليون ذلك «فالجيران» الخائفون المستسلمون الموجودون خلف الجدران المحيطة بالمستوطنات «ليسوا مجرد عمال مبتسمين ينتظرون يوم عمل عندهم وإنما هم فلسطينيون متطرفون في وطنيتهم بدرجة لا تقل عن اليهود أنفسهم» (موشيه شوكير هآرتس 1/7/2001) خصوصا وأن الصراع يدور في ظل معادلة صفرية: كل مكسب لطرف هو بالضرورة خسارة للطرف الآخر
العدد 22 - الجمعة 27 سبتمبر 2002م الموافق 20 رجب 1423هـ