العدد 2195 - الإثنين 08 سبتمبر 2008م الموافق 07 رمضان 1429هـ

«الهوية»: ذلك الحاضر الغائب في أزمة المجتمعات الإسلامية

مصباح الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع مصباح الحرية

تشكل شعوب العالم العربي الإسلامي في الوقت الراهن إحدى الشعوب الأكثر التصاقا بماضيها، في الوقت نفسه الذي تواجه فيه تحدي التحديث والتقدم والذي يمثل الغرب نموذجهما. يقول عبدالله العروي في كتابه «الايديولوجيا العربية المعاصرة»: «منذ 75 سنة والعرب يطرحون السؤال نفسه: من هو الآخر؟ ومن هو الأنا؟» وإذا كان صاحب مفهوم العقل قد طرح السؤال أواخر الستينيات، فإن الملاحِظ لحركية المشهد العربي الفكري والثقافي لابد أن يكتشف استمرار حضور الهواجس نفسها وإن اختلفت صيغها، ما بين حافر في العقل العربي وناقد له.

يقدم العالم العربي للملاحِظ الأجنبي صورة حية لمجموعة من التناقضات أمام عنف التغيير المفروض بقوة تكنولوجية وحضارية واقتصادية تروج لنموذج النجاح الغربي المدعوم بإيمان عميق بالتفوق. ولعل مأثورة عصام العطار التالية خير معبر عن هواجس جيل بأكمله. يقول: «كيف نقبل الجمود، بل كيف يمكن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله... باستمرار لابد لنا من التجدد الدائم والإبداع المتواصل والجهاد المضني في كل مجال... وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر وأزاحنا الركب البشري عن طريقه وقذف بنا إلى هامش الهامش أو هوة التاريخ. فذهبنا جفاء كما يذهب الزبد وغثاء السيل ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد». فما بين انجذاب كلي إلى ماضٍ مجيد ورهانات التحديث تختلط الدعوات بالصراخ، بالعواطف اللاعقلانية وغليان اجتماعي وسياسي. إنها ملامح أزمة هوية عميقة.

لابد من العودة إلى الانفجار الحداثي الذي رافق الاستعمار ابتداء من القرن التاسع عشر حيث واجه المسلمون أسئلة هوياتية عميقة. فأصبح مفهوم الخصوصية المؤسس على قدسية اللغة والتاريخ والدين المشتركين موضع نقاش منذ النصف الثاني من القرن وتعمم بعد ذلك على امتداد العالم العربي الإسلامي. وقد أفرز هذا الاختلال مجموعة من الاستتباعات أهمها على الإطلاق العداء الذي انتصب بين الوطنيين والإسلاميين عند مطلع القرن العشرين إذ اعتبرت النزعة الوطنية نقيضا لروح الدين، ولم تتردد في وصفها بالمؤامرة الغربية التي تمس وحدة الأمة. غير أن المسافة الموضوعية بين المثالي والواقعي أفرزت فكرة الإصلاح. ومن ثم دعا مفكرو الإصلاح إلى العودة إلى السلف الصالح وإلى التقاليد الصافية للدين.

كما لم يحدث قط على امتداد تاريخ الدولة الإسلامية، تطبيق الليبرالية السياسية إذ ظلت السلطة تقريبا في يد حاكم مطلق وهو ما يناقض جذريا الصورة المثالية لأسطورة دين يدعو إلى العدالة والمساواة. وحيث ما وجدت مصلحة الجماعة فثمة شرع الله. والمسلمون بأجمعهم لم يستطيعوا التخلص من ذلك.

أما الملاحظة الثالثة فهي غرابة مدى الحيوية الحاسمة للانتماء إلى الأمة الإسلامية المتصورة كوحدة في حين أن الحقيقة التاريخية تكذب هذه الأطروحة بشكل سافر. مبدئيا كل المسلمين إخوة في الدين، مهما كان انتماؤهم الإثني، لأن منهج الإسلام العالمي يتجاهل الحدود الوطنية. ولحماية الذات من كل تشرذم وانقسامات طالما لجأت الأدبيات الإسلامية إلى اتهام الغير للرد على الواقع المتشرذم للأمة الإسلامية، فتعزى الانقسامات إلى عدو محتمل يكون سبب المؤامرة المحبوكة (الأعداء - الكفار) الذين يرمون إلى تقزيم الدين من الداخل، وهذا ما يمكن أن يفسر الحذر الذي تقابل به أية محاولة تجديدية، لأن «الإسلام فقد ثقافته الأصلية إلى حد بعيد بفعل الافتراءات الكاذبة ذات الأصول الخارجية».

ومن أجل الهدف نفسه، أي حماية الذات، يعتبر وضع وحدة الأمة في خطر خطيئة كبرى لا يمكن التساهل فيها، ويرمى هذا بالضرورة إلى الحفاظ على الانسجام الاجتماعي، إذ يحتل العنصر العربي في الايديولوجية الإسلامية وضعية خاصة في العالم الإسلامي، فالخليفة يجب أن يكون عربيا، واللغة العربية تبقى مقدسة، لأنها لغة الوحي الذي لا يمكن قراءته في غير لغته الأصلية؛ إنها اللغة التي اختارها الله لمخاطبة الجنس البشري.

صحيح أن الساسة الليبراليين حاولوا أمام عجز الإصلاح الذي قاده رواد التقليدية ملء الفراغ، إذ شكلوا المؤسسين الفعليين لاستقلال الدول العربية، فمزجوا بين ثنائية العروبة والإسلام مستعيرين جهازا مفاهيميا مستمدا من التراث، غير أن نموذجهم السياسي والاجتماعي ظل مستمدا من النزعة الملائكية والعقلانية الأوروبية. إلا أن الاضطرابات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والحرب العربية الإسرائيلية أسهمت في إحداث تغيرات فجائية وجذرية في انبثاق حركات التحرر إذ شكل مفهوم الثورة إحدى المفاهيم العامة التي طبعت المرحلة.

وقد طرحت على النزعة العروبية مجموعة من التحديات تمثلت في هذا التحدي المزدوج الذي يمثله الغرب من جهة والبنيات التقليدية المهيمنة من جهة أخرى. فسادت نزعة مناوئة للنموذج الغربي باسم الأصالة والخصوصية والقيم المسماة أصيلة، كما شهدت المرحلة نوعا من التماهي بين العروبة والإسلام. وهو اتجاه شمل حتى بعض المنظرين المسيحيين الذين أكدوا الأبعاد الإسلامية للشخصية العربية معتبرين أنها موروث مشترك بين أفراد الأمة.

يعرف العالم العربي الإسلامي حاليا الكثير من التغيرات تمس العقلية السائدة يرافقها قلق حاسم ناتج عن تعدد الإجابات المقترحة للرد على إكراهات وضعية فقدان الهوية، ويمكن تلخيص ذلك في التناقض بين الأصالة والمعاصرة الثورية. ولقد حاول التيار الأصولي تحقيق هذه الإجابة من خلال الدعوة إلى عودة الأمة العربية إلى تطبيق الشرع الإسلامي مستمدا من السلف الصالح نموذج العمل والتأهيل.

تلك هي بعض سمات المجتمعات العربية الإسلامية الباحثة عن استقرار هوياتي تأوي اليه عندما تضيع كل النماذج المسماة مرجعية وهي السمات التي لا يمكن فهمها في انفصال عن بنية شديدة التعقيد من العوامل التاريخية والسياسية والدينية.

* أستاذ فلسفة وصحافي من المغرب والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية» www.misbahalhurriyya.or

إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"

العدد 2195 - الإثنين 08 سبتمبر 2008م الموافق 07 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً