العدد 2185 - الجمعة 29 أغسطس 2008م الموافق 26 شعبان 1429هـ

«منظمة شنغهاي» والتوازن الدولي الجديد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التأييد الذي حصلت عليه موسكو من قمة دول «منظمة شنغهاي» التي انعقدت في عاصمة طاجيكستان (دوشنبه) بشأن دورها الايجابي في ازمة جورجيا والبحر الأسود ومنطقة القوقاز وضع التحالفات الدولية في إطار خريطة بدأت تتشكل خطوطها ويرجح أن ترسم ألوانها لتفصل الحدود بين الشرق والغرب في دائرة «الشرق الأوسط الكبير». وتلوين الحدود الفاصلة بين قوتين يتطلب التعاون وربما التجاذب في منطقة حيوية وإستراتيجية وغنية بالثروات ومهمة في موقعها الذي يشرف على تقاطع الطرقات التجارية.

منطقة أوراسيا (أوروبا وآسيا) تشكل جغرافيا وتاريخيا ذاك الممر التقليدي للعلاقات الدولية. وهذه المنطقة التي تراجعت أهميتها الإستراتيجية في فترة «الحرب الباردة الأولى» تم خلالها تقاسم النفوذ تحت سقف ثنائية دولية (أميركا والاتحاد السوفياتي) عادت للنهوض مجددا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومته الاشتراكية في أوروبا الشرقية في العام 1991. انهيار طرف من المعسكرين أدى إلى توليد حيويات دولية لتعبئة الفراغ الناتج عن انكسار وحدة الجمهوريات السوفياتية في آسيا الوسطى وبحر قزوين والقوقاز. وهذا الأمر شجع الولايات المتحدة على الاندفاع باتجاه وراثة «الجمهوريات السوفياتية» السابقة وضمها إلى معسكرها تحت قيادتها الأحادية.

آنذاك مرت موسكو في حال من التخبط الأمني والفوضى الاقتصادية حين قادها رئيس غائب عن الوعي (بوريس يلتسين) ما أدى إلى تدهور نموها الاجتماعي والسكاني إلى درجات دنيا من الانحطاط. واستمرت غيبوبة الكرملين إلى أن انتخب فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا وأخذ منذ العام 2000 يعيد ترتيب العلاقات الداخلية إلى أن وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.

شكلت هجمات سبتمبر قوة ضغط دولية على الكرملين حين أربكت روسيا ووضعتها في موقع الطرف المتفهم للغضب الأميركي فاضطرت إلى السكوت والتعامل الايجابي مع حاجات الولايات المتحدة في لحظة اندفاع واشنطن الهجومي إلى «الشرق الأوسط» بذريعة مكافحة الإرهاب وملاحقة خلايا تنظيم «القاعدة». السكوت الروسي جاء تلبية لحاجة دولية ولكنه حمل معه الكثير من المخاوف والقلق من خفايا الإستراتيجية الأميركية ونزوعها نحو تكسير الأنظمة وإعادة تأسيس دول تابعة لمظلتها الأمنية وسوقها الاقتصادية.

آنذاك كانت «منظمة شنغهاي» قد تأسست في يونيو/ حزيران 2001 بمبادرة من بكين وضمت إلى جانب الصين وروسيا أربع جمهوريات «سوفياتية» سابقة من آسيا الوسطى وهي كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان. وشكلت المنظمة ذاك الإطار الجغرافي لدول آسيوية نامية تحتاج إلى قوة الصين الاقتصادية ومظلة روسيا الأمنية لحماية إنتاج النفط وخطوط الإمداد والأنابيب.

ضربة 11 سبتمبر زعزعت استقرار المنطقة وفرضت على دول «منظمة شنغهاي» تنازلات سياسية في مبادرة حسن نية مع حاجات الولايات المتحدة واندفاعها العنيف باتجاه منطقة إستراتيجية وحيوية. فالهجمات تصادف وقوعها بعد ثلاثة أشهر من تأسيس المنظمة. وهذا التوقيت ساهم في عدم إعطاء فرصة زمنية لنهوض المنظمة وظهورها كقوة اقتصادية صاعدة من شرق آسيا إلى غرب أوروبا. وبسبب التقارب الزمني بين تأسيس «منظمة شنغهاي» وهجمات سبتمبر (ثلاثة أشهر) اضطرت روسيا والصين ودولة آسيا الوسطى إلى التعاون الإيجابي مع حاجات أميركا الأمنية التي كانت تمر إدارتها بحالات من الغضب والتوتر والرغبة في الثأر والانتقام. وهكذا دخلت واشنطن على معادلة «أوراسيا» من موقع الهجوم وأخذت تمارس سياسة القوة لكسر التوازنات الإقليمية فاندفعت نحو أفغانستان واحتلتها ثم توجهت إلى الخليج وغزت العراق وبعدها أخذت تهدد بتقويض الدول وإعادة رسم الخرائط وتبديل الأنظمة أو تغيير سياسات.

التعاون القلق

اضطرت «منظمة شنغهاي» للتعاون ودعت الصين إلى عقد اجتماع طارئ في بكين حضرته دول المنظمة إلى جانب الهند وباكستان التي شهدت حدودهما حالات توتر واستنفار. وساهمت قمة بكين في اقناع اسلام آباد ونيودلهي في ضبط النفس وبذل الجهود لخفض التوتر تمهيدا للحوار السياسي بين الجانبين. واتفقت الدول المجتمعة في بكين على إستراتيجية توافقية تلبي حاجات أميركا الأمنية، فهي أيدت سياسة «مكافحة الإرهاب» وتوافقت على ترتيب آلية للرد عل أية أزمة مفاجئة.

انتهت قمة بكين بالتفاهم على أربع نقاط مهمة تمثلت في دعم حكومة أفغانستان (حامد قرضاي) الانتقالية، ورفضت التحيز وازدواجية المعايير، وحذرت من أزمة جديدة في أفغانستان والمناطق المجاورة في حال استمرت واشنطن في فرض أسلوبها الفوقي في إدارة المشكلة، وأخيرا قررت القمة (منظمة شنغهاي) إنشاء وحدة مكافحة الإرهاب يكون مقرها في بيشكيك عاصمة قرغيزستان.

تعاملت أميركا مع قرارات قمة بكين باستخفاف وأخذت تضغط باتجاه عزل دول آسيا الوسطى عن محور دول «منظمة شنغهاي» بقصد إضعاف موسكو وإبعادها عن بكين مستفيدة من قلق باكستان على برنامجها النووي وخوفها من نمو قوة جارها الهندي وضغوطه على حدودها في منطقة كشمير. وهكذا زادت الضغوط الدولية على باكستان فاضطرت حكومة اسلام آباد (الرئيس السابق برويز مشرف) إلى الدخول في سياسة ضرب المنظمات والهيئات الإسلامية والجمعيات الكشميرية العاملة في العاصمة الباكستانية. وتركزت الضغوط الأميركية على مسألة «مكافحة الإرهاب» مستبعدة حاجات اسلام آباد لترتيب موقعها والحد من الضغوط الهندية على جبهة كشمير.

كان الهدف الأميركي من تلك الضغوط على باكستان الاستفادة استراتيجيا من احتلالها لأفغانستان. فاتجهت واشنطن بسرعة إلى تثبيت مواقعها في دول آسيا الوسطى فأقدمت على بناء قاعدة جوية عسكرية في كازاخستان، وأقامت جسور وخطوط مواصلات وسكك حديد ومراكز اتصالات ومخازن أسلحة في أوزبكستان، وأرفقتها بإنشاء تحصينات عسكرية في قندهار (أفغانستان) وباكستان وعززت مواقعها في شمال بحر العرب.

أدى هذا الاختراق الأميركي لمنطقة آسيا الوسطى (دول منظمة شنغهاي) بذريعة «مكافحة الإرهاب» وتأمين معابر لوجستية للقوات العاملة في تلك الدائرة إلى اثارة مخاوف روسية - صينية وبدء القلق من احتمال تطوير الوجود العسكري الأميركي لتطويق نفوذها في آسيا الوسطى التي تحتل مكانة حيوية في التوازن الإستراتيجي في دائرة «الشرق الأوسط الكبير» وصولا إلى القوقاز. وشكلت هذه التطورات الخطيرة رأس اهتمامات وجدول أعمال «منظمة شنغهاي» التي اجتمعت في بطرسبورغ في روسيا في يونيو 2002. إلا أن أميركا لم تأخذ قلق الثنائي الصيني - الروسي بالاعتبار لكون موسكو آنذاك كانت في وضع اقتصادي لا يسمح لها بالتحرك والدفاع عن مصالحها، كذلك كانت بكين بحاجة إلى فرصة زمنية تسمح لها بإعادة ترتيب أوضاعها السياسية والأمنية مع محيطها ودول الجوار تحت مظلة «منظمة شنغهاي».

الآن وبعد مرور أكثر من 7 سنوات على تأسيس المنظمة ونحو 7 سنوات على هجمات سبتمبر أخذت تتشكل في الأفق الدولي توازنات تكشف عن نمو قوة اقتصادية صاعدة بدأت تتدخل في السياسة وتطرح وجهات نظر مخالفة للتوجهات الأميركية في منطقة «اوراسيا». وانتقال رابطة «منظمة شنغهاي» من الاقتصاد إلى السياسة انطلاقا من أزمة جورجيا الممتدة من قزوين إلى البحر الأسود في دائرة القوقاز تعتبر اشارة إنذار للولايات المتحدة التي بالغت في استخدام قوتها لكسر التوازنات وتعديل الخرائط بذريعة «مكافحة الإرهاب».

التأييد الذي حصلت عليه موسكو من دول «منظمة شنغهاي» بداية هجوم معاكس ويعتبر خطوة مهمة في سياق وضع التحالفات الدولية في إطار خريطة أخذت تتشكل خطوط ألوانها لترسم تلك الحدود الفاصلة بين الشرق والغرب في منطقة «اوراسيا». التأييد اشارة، وبعد الإشارة يمكن توقع الكثير من المتغيرات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2185 - الجمعة 29 أغسطس 2008م الموافق 26 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً