لم تأت الأمية من الفراغ، بل هي نتاج مباشر، أو ربما غير مباشر، لمجموعة من الأسباب يمكن رصد أهمها:
1-غياب الإرادة السياسية: وليس في الأمر هنا أي زج مفتعل للسياسة في القضايا التعليمية، كما قد يبدو الأمر للبعض. فهذا كان أحد الأسباب التي أوردها تقرير صدر عن «الألكسو» في حصرها لأسباب تفشي الأمية في الوطن العربي.
إن هذه الإشارة البارزة في أحد تقارير منظمة «الألكسو»، والذي حمل دعوة صريحة إلى «ضرورة توافر الإرادة السياسية» من أجل محاربة الأمية وتنفيذ برامج محوها في نطاق خطة زمنية تسير وفق أهداف محددة، ينذر باحتمال استمرار الأمية إلى زمن غير محدد، وخصوصا إذا أخذنا في الاعتبار عجز معظم الحكومات العربية عن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية التربوية في نطاق الدولة الواحدة.
2- محو أمية النساء: على رغم كل الضجيج الإعلامي الذي تثيره المؤسسات الرسمية العربية بشأن نجاح برامج محو الأمية، فإن نسبتها في صفوف المرأة العربية، لاتزال عالية. فهناك نحو 50 مليون امرأة عربية بالغة أمية.
وتشير بعض الدراسات إلى تفاوت تفشي الأمية بين النساء في البلدان العربية، فبينما نجد أن النسبة تتراوح بين 18 و20 في المئة من النساء البالغات في الكويت والبحرين وقطر والأردن ولبنان والإمارات، نكتشف في المقابل أن هذه النسبة تقفز إلى 70 في المئة من إجمالي النساء البالغات في اليمن وموريتانيا والصومال والمغرب وجيبوتي، وتتراوح هذه النسبة بين 50 و 60 في المئة من النساء في بقية الدول العربية.
3- موازنات التعليم: تداهمنا المؤسسات الرسمية بإعلان موازنات تعليمية تبدو في ظاهرها مجزية وفي تنامٍ مستمر، لكن هذه الموازنات تتقزم وتصبح باهتة عندما تقارن بالموازنات المخصصة لبنود غير مجدية مثل التسلح، الذي أثبت الغزو الإسرائيلي المتكرر للحدود العربية، وكذلك الدخول العراقي للكويت عدم جدواها، واضطرار الحكومات العربية للاستنجاد بأجنبي من أجل حماية حدودها.
لكنه حتى وإن تجاوزنا ذلك، سنكتشف، كما في اليمن على سبيل المثال، أن الأجور تلتهم ما يقارب من 90 في المئة من قيمة الموازنة المخصصة للتعليم، الأمر الذي يترك الفتات للبنود الأخرى في الموازنة التعليمية. وهنا سنجد أنفسنا فيما يشبه الحلقة المفرغة، إذ إن تدني مستوى التعليم، يقود إلى تفشي الأمية، التي بدورها تساهم في تدني الناتج القومي، ما يدفع إلى تقليص النسبة المخصصة لمحو الأمية من قيمة الموازنة المخصصة لرفع مستوى التعليم أو للحد من تفشي الأمية.
4- التلاعب بأرقام الإحصاءات: فقد بدأ بعض الدول العربية يلجأ إلى استخدام النسب بدلا من إيراد الأعداد عند تناول موضوع الأمية، واسخدام تلك النسب للتفاخر بتدني نسب الأمية في صفوف مواطنيها، في حين تشهد كل الظواهر الأخرى على زيادة عدد الأميين في هذه الدولة أو تلك. ويعود السر في ذلك إلى الانفجار السكاني، وارتفاع معدلات أعمار السكان (سن الوفاة). فمن جراء ذلك تنخفض النسب، على رغم ارتفاع العدد المطلق.
5- القصور في التعريف: فكما ذكرنا لم تعد الأمية محصورة في تعليم الأبجدية، كما هو الحال في أهداف الكثير من برامج محو الأمية العربية، التي يختفي منها ذلك الربط الديناميكي المعاصر بين التنمية الثقافية والاجتماعية والتنمية التربوية التعليمية، ومن بينها برامج محو الأمية. هذا البتر الصادر عن قصور في النظر، وتقليدية متخلفة في معالجة الأمور المعاصرة ينعكس سلبا على البرامح التعليمية، الأمر الذي من شأنه دفع المزيد من الطلاب نحو هجر الصفوف الدراسية والتسرب من المدارس، كي يتحولوا إلى أرقام جديدة في عدد الأميين الذين باتوا إلى برامج وخطط محو أمية أشد تعقيدا وأكثر كلفة.
هذه الأسباب، وربما هناك أخرى غيرها، ينبغي ألا تجعل القيمين على برامج محو الأمية العربية ضحايا نظرة سوداوية، كما أن القصد منها ليس إشاعة روح اليأس وفقدان الأمل، بقدر ما تشكل دعوة صادقة إلى ضرورة رؤية الأمور على حقيقتها، كي توضع تلك الأمور في نصابها الصحيح، بدلا من ان تكون مادة للترويج الإعلامي ذي التأثير الآني المحدود، عندما يصطدم بالأرقام وتفحمه الحقائق القائمة على الأرض.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2183 - الأربعاء 27 أغسطس 2008م الموافق 24 شعبان 1429هـ