العدد 2178 - الجمعة 22 أغسطس 2008م الموافق 19 شعبان 1429هـ

أصول النظرة الدونية للحريات وللديمقراطية في مجتمعات الشرق الأوسط التقليدية

مصباح الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع مصباح الحرية

لا يملك مؤرخ الأفكار إلاّ أن يشعر بالحيرة حيال تلكؤ الديمقراطيات وحركات الحريات المدنية على أنواعها في دول الشرق الأوسط، وخصوصا أن مثل هذه الحركات والأنظمة قد قطعت أشواطا لا بأس بها في دول مماثلة، من جوانب عدة، لدول الشرق الأوسط. والأدلة كثيرة على ذلك: فإذا كان هناك من يعتقد أن مجافاة أو ازدراء الحريات والأنظمة الديمقراطية إنما هي من صفات الأمم الشرقية عامة، فإن نجاح تجارب الديمقراطيات والحريات في دول شرقية أخرى كالهند من بين دول أخرى يأتي ردا على من يعتقد أن الديمقراطيات والحريات لا تنتشي ولا تزدهر إلا في الدول الغربية. أما إذا كان هناك من يحاول مواشجة غياب الحريات وضعف الديمقراطية بالأديان وبطبيعة الثقافات المحلية فإنه مخطئ كذلك، وخاصة أن هذه الحركات الإنسانية قد نجحت في دول شرقية يدين غالبية سكانها بالديانة الإسلامية، الأمر الذي يتبلور في ديمقراطيات لا بأس بتواريخها، كما هي عليه الحال في دول كماليزيا وباكستان وتركيا.

إن هذه الملاحظات العامة توجب على المتابع محاولة التنقيب في الأسباب الكامنة أو الخفية التي قادت إلى ازدراء الحريات والديمقراطية في دول الشرق الأوسط طوال عقود. ربما قادنا علم الاجتماع إلى شيء من الإجابة المفيدة، وخاصة من خلال توسيع مفاهيم العائلة والأسرة وتطبيقها على المجتمعات والدول التي تعتمد أنظمة أبوية، حيث تكون الإجابة على فكرة أن الأمة أو المجتمع إنما هي عائلة واحدة ولكن موسعة تحت ولاية إنسان واحد هو «ولي الأمر» الذي - كما يعتقد العامة - حظي بالحكمة وبالرؤية وبالبصيرة الكافية التي لا يملكها أحد سواه، الأمر الذي يؤهله للحكم المطلق ولسحق الرأي الآخر. هذا ما يفسر مخاطبة بعض القادة في هذا الإقليم شعوبهم بألفاظ من نوع «أبنائي»، وما يفسر إطلاق الإعلام توصيفات من نوع «الأب القائد» على رؤسائهم، كما حدث في العراق على عهد الرئيس السابق أحمد حسن البكر. لقد لاحظ علماء الاجتماع وخاصة في حقل علم الإنسان أن هناك ثلاثة أنواع من العوائل ظهرت عبر تاريخ البشرية: (1) العائلة التي يكون الأب هو صانع القرار فيها، وهي النوع الأكثر شيوعا في المجتمعات الشرقية، وخاصة الإسلامية (2) العائلة التي تكون الأم هي صانعة القرار فيها وهي ذلك النوع من العوائل الشائعة في المجتمعات البدائية في إفريقيا وجزر جنوب المحيط الهادي، حيث تكون الأم (وليس الأب) هي المنتج أو الجامع للقوت لإطعام العائلة والأولاد (3) العائلة الديمقراطية: وهي العائلة الأكثر شيوعا في المجتمعات الغربية، وخاصة في المجتمع الأميركي حيث يشترك الجميع الأب والأم والأبناء بتوفير موارد الأسرة، كما يشترك الجميع بأنشطة تبادل الرأي والنقاش لصناعة قرارات العائلة الأكثر أهمية.

إن النوع الأول من العوائل حيث يكون الأب الذكر الأسمر القوي ومصدر غذاء الأسرة وحمايتها هو الأكثر انتشارا في مجتمعات الشرق الأوسط. وإن توسيع مفهوم العائلة الذكورية ليشمل المجتمع بأسره أو الدولة بأسرها إنما يمكن أن يرجع إلى طبيعة الحكم الفردي إبان حقبة الإمبراطورية العثمانية والإمبراطوريات القديمة كالإمبراطورية الصفوية، حيث يكون السلطان العثماني «خليفة المسلمين» متمتعا بسلطات لا يمتلكها أحد غيره، وهي سلطات مستوحاة أو مستقاة من فكرة الباب العالي ومن أن السلطان إنما هو حسب هذا المفهوم ظل الله، بالنظر لما أوتي من قداسة ولما أوتي من قوة سماوية تسمح له بالاستغناء عن آراء الآخرين والاستخفاف بها، حتى وأن كانت آتية ممن هم أكثر خبرة أو حكمة منه.

والحق، فإن هذه القداسة التي أحاط السلطان العثماني نفسه بها، وهي القداسة التي سمحت له باتخاذ عشرات الآلاف من الجواري والعبيد في الـ «السراي» الخاص به لم تتلاشَ مع سقوط الإمبراطورية العثمانية، وخاصة بعد أن حاولت الكولونياليات الأوروبية التي حلت محلها في الدول العربية أن تجد صيغا مقبولة وقريبة من الواقع والممارسات السابقة لحكم البلدان العربية والمسلمة التي وقعت تحت هيمنة أو وصاية بريطانيا أو فرنسا.

لقد تواصل هذا الاتجاه الخاطئ، وخاصة بعد حقبة الاستقلال التي شهدتها الدول العربية، إذ لاحظ الحكام الوطنيون الجدد ضرورة الحفاظ على البعد الروحي للحكم، وهو البعد الذي يحاط به الحاكم المطلق الذي يؤهله لركل آراء الآخرين ولازدراء أدوارهم، الأمر الذي يبرر محاولة العديد من الحكام الجدد في الدول الشرق أوسطية تتبع أصولهم إلى أسر مقدسة في التراث العربي الإسلامي: حاول شاه إيران المخلوع في احتفالات مرور ألف سنة على تأسيس الإمبراطورية البهلوية تتبع أصوله العائلية إلى أسرة فارسية شاهنشاهية عتيقة يمكن أن تتوالد عبر القرون لتمنح الشاه محمد رضا بهلوي «آريامهر» السلطة المطلقة لحكم البلاد والعباد من الآن وإلى الأبد.

لذلك تكون الأنظمة السياسية الديمقراطية أو الليبرالية القادمة من العالم الغربي شيئا جديدا غير معهود في تراث أمم الشرق الأوسط التي اعتادت توسيع مفهوم العائلة الذكورية التي يسيطر عليها الذكر الأسمر القوي، الأمر الذي يفسر النظرة الدونية التي تخص بها الدكتاتوريات الأنظمة الديمقراطية ومفاهيم الليبرالية والحرية الشائعة في العالم الغربي خاصة بعد القرن التاسع عشر.

إن الارتفاع بمجتمعات الشرق الأوسط إلى مستوى تقبل وقبول الحريات الفردية والجماعية والأنظمة الديمقراطية المتطورة توجب على المتابع البدء بعملية إعادة تثقيف كبرى واسعة، تبدأ مع النشء والشبيبة وتتخلل الأنظمة المعرفية والتربوية بأسلوب القواعد الأولية (grassroots) حيث يتم تعريف هذه الفئات الشابة بمفاهيم الحريات والتحرر والسلوكيات المدنية (civics) والحقوق المدنية، على سبيل التمهيد النفسي والثقافي والتربوي لبناء مجتمعات ديمقراطية تزدهر فيها الحريات وتحترم عبرها آراء الجميع دون تعمد سياسات الاضطهاد وقمع الآخرين.

* كاتب وباحث أكاديمي عراقي، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»

إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"

العدد 2178 - الجمعة 22 أغسطس 2008م الموافق 19 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً