لا شك أنّ استقالة الرئيس برويز مشرّف لم تكن مفاجأة لاحد؛ لأنّ البديل الآخر كان أكثر صعوبة وقسوة نفسيا عليه وهو لم يتعوّد المساءلة القضائية أو المساءلة البرلمانية، كما أنّ مثل هذه المساءلات في كثير من الدول النامية تعتمد الموقف السياسي أكثر من الموقف القانوني السليم. ومنذ أنْ تخلّى الرئيس الباكستاني عن منصب رئاسة الأركان ثم ألغى حالة الطوارئ وأجرى انتخابات نيابية نزيهة وعاد الحزبان الكبيران للتنافس السياسي فإنّ نهاية الرئيس مشرّف كانت أمرا متوقعا وهي مسألة توقيت حاول الرئيس مشرّف المناورة لتأخيره ولإحداث انقسام في صفوف معارضيه.
ولكنّ المعارضة الباكستانية كانت مختلفة فيما بينها عن كثير من القضايا ما عدا عداءها للرئيس مشرّف ومن هنا كان تحركها الأخير ضده.
ولكن تقييم الأمور بطريقة موضوعية يجعلنا نقول إنّ حكم الرئيس مشرّف حقق ثلاث نتائج إبجابية للباكستان.
الأولى: حافظ على وحدة باكستان التي كانت تتعرض لمشكلات سواء في عدم قدرة القوّات الباكستانية في دول مناطق القبائل على الحدود والباكستانية الهندية أو في الخلاف مع MOM حركة القوميين المهاجرين في السند أو حركات شبه انفصالية في بلوشتان.
واستطاع مشرّف بأساليب متنوعة أنْ يجتذب أو يضرب هنا وهناك لضمان وحدة البلاد، وفي الوقت نفسه يقاوم الجماعات المتطرفة والأصولية التي تدعو إلى العنف وتميل لممارسة أعمال إرهابية ارتباطا بالأوضاع في أفغانستان.
الثانية: التقارب مع الهند في اتجاه سياسته الواقعية البراجماتية، والارتماء في الحضن الأميركي في إطار مقاومة الإرهاب وبذلك أمكنة رفع اسم الباكستان من العقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة بعد تفجيرها القنبلة النووية بل والحصول على معونات دولية متعددة.
الثالثة: ممارسة الفساد والإرهاب في أعماق المجتمع الباكستاني. والذي مع الأسف كانت تغذيه بعض الأحزاب المدنية أو يتورّط بعض عناصرها فيه وإصلاح الحالة الاقتصادية مما جعل الباكستان في مصاف الدول ذات معدل النمو المرتفع (7.6 في المئة) ولكن من ناحية أخرى دخل الرئيس مشرّف في صراعات كان أجدر به إلا يقع فيها ومنها خلافاته مع قضاة المحكمة العليا (الدستورية) ومنها ضغوطه المتشددة ضد الجماعات، الإسلامية التي سبق وتحالفت معه في بداية حكمه ونحو ذلك.
التساؤل الذي يطرح نفسه عن مستقبل الباكستان بعد مشرّف؟ وللرد على هذا التساؤل يمكن الاعتماد على عدد من المؤشرات.
الأوّل: طبيعة التحالف المدني ضد مشرّف. وهو تحالف اعتمد على وحدة الهدف في الإطاحة بمشّرف ولكنه مختلف فيما دون ذلك سواء في القاعدة الشعبية لكلّ من الحزبين الكبيرين (حزب الشعبي والرابطة الإسلامية) أو في أيديولوجية كلّ منهما أو في تركيبة قيادة كلّ حزب وشخصياته.
الثاني: طموحات قيادة الحزبين الكبيرين. فحزب الشعب الذي تزعمته بنظير باقتدار يختلف عن حزب الشعب بقيادة ابنها (الشاب الصغير السن القليل الخبرة) وقيادة زوجها أصف زارداري بكلّ ما له من تاريخ وسمعة معروفة. كما أنّ الرئيس الوزراء الحالي جيلاني هو شخصية توافقية وهناك شخصيات أخرى في الحزب لها ثقل ومكانة وشعبية كما أنّ لها طموحات. والشيء نفسه في حزب الرابطة الإسلامية فنواز شريف يُوجد من بين صفوف حزبه شخصيات تتطلع للزعامة كما أنّ عددا من القيادات البارزة سبق أنْ انقشعت عنه مثل: شوردي شداعت حسين، ومشاهد حسين وغيرها. ومن ثم فإن مقدرة قيادة كلّ حزب على استيعاب العناصر القوية فيه في الفترة المقبلة تعتبر مسألة مهمّة حتى لا يحدث انقسام في داخلها.
الثالث: موقف القوّات المسلّحة الباكستانية وهي صاحبة النفوذ الأكبر في النظام السياسي الباكستاني.
الرابع: قدرة التحالف على الموازنة بين إرضاء الولايات المتحدة والهند بمقارنة الإرهاب ومواقف الجماعات الإسلامية التي تطالب بالجهاد أو تدعو لحل مشكلة كشمير وتعزيز الحركات الجهادية فيها.
الخامس: مدى السلوك العقلاني للقضاة في التمسك بأحكام القانون والابتعاد عن الانزلاق في اللعبة السياسية. ولاشك أنّ هذا أمر بالغ الدقة بالنسبة إلى القضاء في الباكستان الذين لعبوا دورا أساسيا في السنوات الخمس عشرة الأخيرة خصوصا ضد حكومة بنظير بوتو ثم ظرف الجنرال مشرف.
السادس : مدى بروز النخبة الاقتصادية الليبرالية في الباكستان وحرصها على التمسك بإنجازات مشرّف في محاربة الفساد وتحقيق التنمية في مواجهة الأحزاب المدنية.
ولكن ما هي الدلالة الرئيسية من وراء أحداث باكستان؟ إنها في تقديرنا تفشل من حقيقة مزدوجة فمن ناحية أنّ الاعتماد على الولايات المتحدة بصورة مطلقة هو اعتماد خاطئ فالسياسة الأميركية تتغير وفقا لمصالحها وليس لديها أيّ تردد،وفي التضحية بأقرب حلفائها إذا وجدت مصلحتها تتحقق عن طريق معارضيه ولعل ّهذه حكمة التاريخ من السياسة الأميركية التي تخلت عن شاه إيران كما تخلت عن مشرّف كما تخلت عن الكثير من الحكّام في الشرق الأوسط ومنهم صدّام حسين وكثيرون في دول أميركا اللاتينية. أما الشق الثاني من الدلالة فهو يرتبط في أهمية اعتماد القائد على تحقيق توازن سليم في سياساته بين الاقتراب المحسوب من السياسة الأميركية وبين إرضاء مصالح شعبه بفئاته المختلفة وليس فئة واحدة فقط وبين الحزم في تطبيق القانون في الدولة وأخيرا بلورة أهداف استراتيجية واقعية وبناء عناصر القوّة الذاتية لتحقيق ذلك عملية التوازن هذه بالغة الدقة ولقد حاولها البعض وأخفق أوانزلق ونموذج ذلك حالة جورباتشوف في الاتحاد السوفيتي السابق. وحتى هذه اللحظة ربما النموذج الناجح هو النموذج الصيني بتحقيق التقدّم التنموي وتطوير المجتمع و الحفاظ على عناصر تماسكه وضرب الفساد الذي يظهر أوّلا بأوّل وتغيير القيادات بصورة دورية ورفع مستوى معيشة الشعب والسير في الديمقراطية والانفتاح السياسي بحذر شديد وعدم الدخول في حروب أو صراعات كلما أمكن ذلك وعدم معاداة الولايات المتحدة وإنما الدخول معها في تعاون من موقع قوّة.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2176 - الأربعاء 20 أغسطس 2008م الموافق 17 شعبان 1429هـ