فيما مضى من الزمن، بالغ بعض المثقفين والباحثين الإسلاميين فيما يتعلق بدور الدولة في الشأن الاقتصادي، لدرجة أن اعتبر بعضهم الدولة منتجا واوجب عليها التصدي لمباشرة الإنتاج كما فعل أحد أساتذة جامعة الأزهر.
والأدلة التي استند لها بعض هؤلاء لا ترقى لدليل شرعي، ولكنها أقرب إلى المنطق العقلي، إذ إن المقدّمة تقول إن الدولة تملك، وبالتالي فمن يملك يحق له التصرّف في ملكه وتثميره، وبما أن الملكيات العامة من مصادر الثروة الطبيعية تقع تحت ملكية الدولة، بذلك يجب على الدولة التصدي للإنتاج خاصة في الإنتاج الأولي كالصناعات الاستخراجية التي تتم من هذه المصادر، وعلى هذا الأساس تضع يدها بشكل تام على الحياة الاقتصادية، لأن من يتحكم في الإنتاج الأولي (قطع أخشاب، استخراج معادن، صيد...الخ) يتحكم في توجيه الإنتاج الثانوي، فمثلا عندما تكون الدولة هي التي تقوم بإنتاج الأخشاب من خلال تقطيع شجر الغابة، فهي التي تتحكم في الإنتاج الثانوي وتفرض شروطها على المصنعين، فتقرر لهم تحويل الخشب إلى أسرّة وخزائن أم يُستخدم في شأن آخر.
والملاحظ أن هذا الفكر طُرح في وقتٍ سابق حين كان الاتحاد السوفياتي في قمة مجده، ونال حينها العمال حقوقهم التي لم يكونوا يحلمون بها، حينها كان الغرب الرأسمالي يعج بالفوضى الاجتماعية نتيجة ظروف المعيشة التي كان يمر بها والبعيدة عن العدالة الاجتماعية من حيث استحواذ فئة قليلة من المجتمع على أكثر ثروات الأمة. وسبقت الحرب الثانية أزمة الثلاثينات الاقتصادية من القرن الماضي التي بدأت بضرب أميركا سنة 1929، والتي على إثرها حدث كساد عظيم وبطالة رهيبة وفقدت آلاف الأسر منازلها المرهونة لعجزها عن سداد الديون المستحقة.
ربما يكون بعض الإسلاميين ممن عاشوا أوج فترة ازدهار وتقدم الكتلة الشرقية الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي، قد تأثر طرحهم بشأن دور ومكانة الدولة بذلك الوضع من تقدم وازدهار التنمية الاقتصادية وما أحرزته التجربة من تقدم، فمع محاولاتهم إبعاد أنفسهم عن هذه التجربة، إلا أنهم أعطوا للدولة دورا كبيرا، اقترب في بعض الأوجه مع الدور الذي تبوأته الدولة في التجربة الشيوعية الاشتراكية الحديثة، لدرجة تبني بعضهم الإدارة المركزية للحياة الاقتصادية.
ولكونهم عاشوا في قمة ازدهار التجربة الشيوعية، ومن أجل إقناع الآخرين بأن هذه التجربة لا تصلح للعالم الإسلامي بسبب عداء الفكر الشيوعي للدين وخطره عليه، قدّم أحدهم - أستاذ أزهري حاليا - مجموعة من التبريرات التي تبّين أن نجاحها سببه البيئة المادية للشعوب التي احتضنتها. ولكن لو انتظروا قليلا، أي حتى نهاية الثمانينات، والسقوط المدوّي للتجربة حين تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1990م، لكان لهم وجهة نظر أخرى، وهي أن الشعوب تحمي النظام الذي يطعمها وينسجم مع فطرتها، ولهذا عندما عجز النظام الشيوعي عن الاستمرار في العطاء، لفظته وتخلت عنه، غير آسفة على أيامه الماضية.
كذلك ساعد هاجس رعاية التوازن الاجتماعي ومشكلة التفاوت الفاحش الذي مرّت به شعوب الدول الرأسمالية سابقا، (الذي عاد حاليا) والناتج عن تسخير الآخرين بسبب الطريقة الرأسمالية في الإنتاج على تبني الآراء الفقهية التي تعطي دورا واسعا للدولة في الشأن الاقتصادي وتقلّص دور رأس المال في العملية الإنتاجية.
ويبدو أننا حاليا نعيش ردّة فعل أخرى معاكسة، فكما اقترب بعض المثقفين سابقا من النموذج السوفياتي، وذلك بسبب النجاح الذي أحرزته التجربة في بداياتها واقترابها بداية الأمر من العدالة الاجتماعية نوعا ما، نجد الآن بعض المثقفين يقترب بشدّة من الفكر الرأسمالي بصورته الأصلية غير الموجودة حتى في أوروبا والقادمة لنا تحت مسمى الليبرالية الاقتصادية الجديدة، إذ يدعم هذا الفريق وبقوة فكرة عزل الدولة التام عن الحياة الاقتصادية تحت دعاوى عدة، أهمها الادعاء أن مسك الدولة الشأن الاقتصادي يُعتبر مدخلا تلج منه إلى الاستبداد السياسي وهدر الحقوق. وهذا الهاجس ليس خاطئا تماما وليس صائبا تماما، ولكن الذي ينبغي التنبيه له وجوب ألا يكون هذا الموقف مدعاة لحدوث أمرين: الأمر الأول، سيطرة بعض الأفراد على مجمل الحياة الاقتصادية ورهن حياة الناس الاقتصادية بأيديهم وهذه نتيجة حتمية للتبني التام لليبرالية الاقتصادية الجديدة، والأمر الثاني ألا تكون دعوة إقصاء الدولة حجة تتذرع بها للتخلى عن التزاماتها الدستورية بشأن تقديم الخدمات الضرورية من دون ضمانات بأن يتمكن الناس من خلال السياسة الجديدة من الحصول عليها. ففيما يتعلق بتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والبريد والنقل والكهرباء والماء وغيرها من قطاعات حيوية لا يستطيع عامة الناس شراءها من السوق حين يتم تحويلها إلى القطاع الخاص بشكل تام مستقبلا، وتنفض الدولة يدها كلية.
ومن أجل الذكرى وعدم تكرار الأخطاء، ففي السنوات الأخيرة، ساهم البعض في تشجيع الدولة على توقيع اتفاقية التجارة الحرّة مع الولايات المتحدة، مدفوعين ببعض الهواجس ذات العلاقة بالشأن السياسي والحقوقي، ولكن هل دار في خلد أحدهم أن هذه الاتفاقية ستبطل قانون منع التلاعب بالأسعار، وتكبّل يد الدولة عن ملاحقة المتلاعبين، إذ صار بعض التجار يتسابق في رفعها حتى كاد الوضع الشعبي أن يتفجر لولا عودة الهدوء لجنون ارتفاع الأسعار؟
كان من الأجدر أن يكون ابتعاد الدولة عن تقديم الخدمات آخر مراحل إقصاء الدولة عن الشأن الاقتصادي بدلا من الابتداء بها كما هو حاصل حاليا، فالواجب الابتداء بأن تعزل الدولة نفسها من مباشرة الأنشطة المنتجة بكل أنواعها، بشرط عدالة ونزاهة خصخصتها حتى لا نقع في مصيبة أخرى مرّت بها الدول الرأسمالية ومازالت تعيش آثارها السلبية، حيث سيطرة أفراد قلائل على الحياة الاقتصادية، وامتداد نفوذها لدرجة التأثير على مختلف السلطات.
ويجب ألا ننسى أن القطاع النفطي، مع ما يشكل من نسبة ضخمة جدا قفزت الى ما يقارب 11 في المئة من إجمالي الدخل المحلي قبل سنوات عدة، وناهزت حاليا 30 في المئة، يفسد كل دعوى لتحجيم تغوّل الدولة، فمازالت عوائد النفط التي تمسك بها الدولة سببا لممانعتها من الإقدام على أي إصلاح سياسي حقيقي.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 2173 - الأحد 17 أغسطس 2008م الموافق 14 شعبان 1429هـ