العدد 2173 - الأحد 17 أغسطس 2008م الموافق 14 شعبان 1429هـ

العراق والأولويات الأميركية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل تخلط الأزمة الجورجية أوراق التحالفات الإقليمية في «الشرق الأوسط» وتدفع الإدارة الأميركية إلى إعادة النظر في برنامج أولوياتها في السياسة الخارجية؟ ما حصل في منطقة القوقاز ليس لحظة عابرة في العلاقات الدولية ويرجح أن يكون للحادث تداعياته السياسية وتأثيراته السلبية على منظومة العلاقات في دائرة أوراسيا (أوروبا وآسيا). تركيا مثلا اختارت الجانب الجورجي خوفا من انقلاب الموازين في محيطها الجغرافي وتقدم القوات الروسية إلى حدودها الشمالية. وتركيا استراتيجيا تفضل أن تبقى جورجيا دولة مستقلة حتى تضمن ذاك الفاصل السياسي الذي يعزل حدودها عن روسيا الكبرى.

إيران تنظر إلى المشهد الجورجي من زاوية مختلفة. فهي ترى أن انتقال الصراع الأميركي - الروسي إلى مرتفعات القوقاز يخفف الضغط الدولي على برنامجها النووي ويلهي واشنطن بمشكلات إضافية تعطل عليها اتخاذ قرارات حاسمة بشأن دورها وموقعها ويفسح لها المجال للتقدم الإقليمي نحو إنجاز مشروعاتها الخاصة من دون عقبات أو اعتراضات.

«إسرائيل» تنظر إلى الحدث الجورجي من زاويتين؛ فهو من جانب جاء يصب في مصلحتها لأنه شد الانتباه الدولي إلى القوقاز بعيدا عن فلسطين واستحقاقاتها المحلية والإقليمية والعربية، ومن جانب آخر رفع من نسبة التخوف الروسي من تل أبيب ودورها في تدريب وتسليح القوات الجورجية. والحذر الروسي من السياسة الإسرائيلية في القوقاز يمكن أن يشجع موسكو على اتخاذ خطوات واضحة بشأن المسارعة في تصدير أسلحة نوعية لإيران وسورية تسهم في تعديل الموازين العسكرية الإقليمية.

سورية أيضا ضائعة في خياراتها العامة والخاصة. فهي حليفة إيران وفي الآن بحاجة إلى تركيا التي تلعب الآن دور الطرف الثالث في إدارة ملف المفاوضات بين دمشق وتل أبيب. وما حصل في القوقاز يمكن أن يشكل انعطافة في المسارات الثنائية ويفرض على دمشق اعتماد سياسة الاختيار بين الحليف الإيراني أو الصديق التركي في وقت تبدو سورية بحاجة إلى الطرفين. فهي لا تستطيع فك ارتباطها مع طهران وأيضا لا تستطيع الاستغناء عن موقع الوسيط التركي الذي يلعب دور المظلة الواقية وقناة تضمن تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة في الفترة المقبلة.

هذا الاختلاط في أوراق التحالفات الإقليمية والمسارات الثنائية الناجم عن احتمال تطور الأزمة الجورجية يفتح الباب أمام متغيرات في السياسة الدولية تختلف عن تلك التي شهدتها منطقة «الشرق الأوسط الكبير» بعد غزو أفغانستان واحتلال العراق.

اختلاط الأوراق

السؤال، هل تتراجع أولوية الملف العراقي في السياسة الخارجية الأميركية بعد تأزم العلاقات بين واشنطن وموسكو في منطقة القوقاز؟ العراق لايزال حتى الآن يحتل الموقع الأول في اهتمامات الإدارة الأميركية، إلا أن الملف أخذ يشهد تراجعات في حسابات واشنطن الدولية بعد ظهور اعتراضات تتحدى خطط الولايات المتحدة ومشروعاتها في الكثير من المناطق الأوروبية والآسيوية. ونمو السياسة الاعتراضية في أكثر من مكان دفع واشنطن إلى إعادة التفكير بالأولويات حتى لا تقع في مشكلات تعطل على مترشح الحزب الجمهوري طموحاته في كسب الشارع الانتخابي والتصويت لبرنامجه الرئاسي.

العراق لايزال في موقع الأولوية، ولكن نسبة الاهتمام تراجعت في الفترة الأخيرة إلى درجة أن بعض الاستراتيجيين العسكريين في البيت الأبيض نصح الرئيس جورج بوش بالتركيز على الملف الأفغاني وسحب القوات من بلاد الرافدين وإعادة نشرها في مناطق القبائل خوفا من امتداد نفوذ «طالبان» إلى باكستان وتعريض المشروع النووي للسقوط تحت ضغط جماعات متطرفة.

جاءت نصائح الخبراء العسكريين بناء على معلومات تشير إلى أن العراق أصبح «دولة» آمنة نسبيا قياسا بالسنوات الماضية وأن ثقل المواجهة انتقل ميدانيا من بلاد الرافدين إلى أفغانستان، الأمر الذي يفرض إعادة نظر في برنامج الأولويات. وإعادة النظر تتطلب خطوة سياسية تعتمد على قراءة نقدية للتجربة الأميركية في مناطق جغرافية وعرة في تضاريسها الطبيعية والسكانية... وهذا الأمر لم يحصل حتى الآن.

نصائح الاستراتيجيين الأميركيين ترافقت مع تحولات ميدانية شهدت خلالها الساحة العراقية بعض الهدوء مقابل ارتفاع نسبة العمليات التي كبدت قوات التحالف (الأميركية الدولية) خسائر عالية في المعدات والأرواح في أفغانستان فاقت خسائرها في بلاد الرافدين. وأدى التعديل في حسابات الخسائر إلى تراجع اهتمام الناخب الأميركي بالشأن العراقي قياسا بالفترة الماضية. حتى المتنافسين على الرئاسة خففا في الأسابيع الماضية لهجة النقد والتصعيد في الموضوع العراقي لمصلحة موضوعات داخلية مهمة تشد انتباه الناخب مصلحيا أكثر من الملفات الخارجية الساخنة.

هذه الصورة أخذت تتشكل في الشهور الماضية وقبل حصول تلك المفاجأة الاستراتيجية في القوقاز. الآن تبدو الصورة مرجحة للتعديل بعد أن ظهرت بقوة الأزمة الجورجية على الشاشة السياسية وأخذت تشد الانتباه إلى «الخطر الروسي» واحتمال تطوره ليحتل الموقع الأول في المبارزة الدولية. الحملة الإعلامية الأوروبية - الأميركية على روسيا وتحميلها مسئولية الأزمة تؤشر إلى وجود متغيرات في الاستراتيجية الدولية تحاول التذكير بقوة موسكو وطموحها نحو استعادة مواقعها في حوضها الجغرافي ومجالها الحيوي. فالحملة تستهدف فتح ملفات «الحرب الباردة» من خلال التركيز على «الدب الروسي» ومخالبه العسكرية القوية والقادرة على كسر التوازنات ومد شبكات السيطرة بغية استرداد النفوذ «السوفياتي» في الحدائق الخلفية ودول الجوار في أوروبا الشرقية ومنطقة القوقاز ودول آسيا الوسطى وبحر قزوين.

حملة التخويف الإعلامية الغربية ضد «الخطر الروسي» تكشف في تضاعيفها السياسية بداية توجهات تطمح نحو تصحيح برنامج الأولويات وإعادة ترتيب لائحة الأعداء كما كان عليه الأمر قبل تسعينات القرن الماضي. ففي تلك الفترة كان الاتحاد السوفياتي يشكل الخطر الأول وبعده الإسلام ثم انقلبت الأولويات فأصبح الإسلام هو الخطر الأول وتحولت روسيا إلى شريك في الحرب على الإرهاب. الآن وبعد أزمة جورجيا أخذ الخطر ينتقل مجددا إلى «الدب الروسي» وبدأ الإعلام الغربي يتراجع في حملته على الخطر الإسلامي.

هذا المتغير لايزال في بداياته، ولكن مجرد التذكير باحتمال حصوله يؤشر إلى وجود توجه أميركي يدفع نحو إعادة النظر في برنامج الأولويات من خلال الثغرة الجورجية. فهل يمكن القول إن الإدارة الأميركية الحالية في شهورها الأخيرة أخذت تتجه نحو تعديل أولوياتها مستفيدة من زوبعة اختلاط الأوراق الإقليمية والدولية التي عصفت بالتوازنات الزئبقية في مرتفعات القوقاز؟

ليس سهلا القطع بهذا الاحتمال والقفز بسرعة نحو استنتاجات تحتاج إلى وقت حتى تتبلور في صورتها النهائية. هناك إشارات ضوئية في هذا الاتجاه، ولكن المعالم السياسية لا يمكن رؤيتها قبل انقشاع العاصفة القوقازية وتداعياتها على دول الجوار وتحديدا أوكرانيا وتركيا وإيران.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2173 - الأحد 17 أغسطس 2008م الموافق 14 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً