العدد 2171 - الجمعة 15 أغسطس 2008م الموافق 12 شعبان 1429هـ

من ربح ومن خسر في معركة جورجيا؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يستعد مجلس الأمن لإصدار قرار دولي بشأن جورجيا ينص على وقف النار ويتطرق إلى مجموعة نقاط يرى في معالجتها سياسيا خطوة ميدانية لاحتواء الأزمة ومنعها من التطور باتجاهات مختلفة. القرار الدولي الذي تبحث دول مجلس الأمن فقراته يعتمد أساسا على تلك المبادرة الأوروبية التي نقلها الرئيس الفرنسي إلى موسكو وتبليسي حين انفجرت المواجهة العسكرية في إقليم أوسيتيا الجنوبية. وتركز المبادرة الأوروبية على نقطتين: الأولى، وقف إطلاق النار. والثانية، عودة القوات إلى التموضع في الأمكنة التي كانت فيها قبل 8 أغسطس/ آب الجاري.

مبدئيا، وافقت روسيا على المبادرة معتبرة أنها حققت ما تريده سياسيا من ذاك الانتصار الجزئي الذي سجلته ضد القوات الجورجية. فهي كسرت الهجوم المباغت الذي شنته تبليسي بإيعاز من واشنطن وتغطيه دبلوماسية أميركية. وهي شنت الهجوم المضاد ونجحت في طرد القوات الجورجية من إقليمي أوسيتيا وأبخازيا وتقدمت ميدانيا واخترقت أراضي جورجيا وحاصرت بعض المدن وأقفلت المعابر ودمرت المواقع وقواعد الصواريخ وهددت باقتحام العاصمة وشلت حركة النقل والمواصلات البرية والبحرية. روسيا اعتبرت أنها نجحت جزئيا في توجيه رسالة قوية للولايات المتحدة تشير إلى أن موسكو لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الاستفزازات السياسية الأميركية والتحرشات العسكرية التي تفتعلها في محيطها الجغرافي ومجالها الحيوي. والرسالة التي وصلت إلى واشنطن أوضحت المدى المقبول الذي تستطيع موسكو تحمله والتفاوض بشأنه وغير ذلك، فهي جاهزة للرد والمواجهة.

الصراع على جورجيا معركة روسية - أميركية في منطقها الجغرافي السياسي وهي تؤشر إلى خريطة استراتيجية بدأت تتشكل في منطقة القوقاز وأوروبا الشرقية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي في العام 1991. فالمعركة هي نتاج انهيار «الحرب الباردة» التي أسفرت آنذاك عن انكفاء روسيا إلى الداخل وخروج آسيا الوسطى ودول القوقاز وشرق أوروبا من تحت المظلة السوفياتية مقابل تقدم الحلف الأطلسي واختراقه المجال الجغرافي لروسيا وصولا إلى أوكرانيا وجورجيا.

موسكو التي استعادت عافيتها السياسية وأظهرت مقدرة على النمو الاقتصادي في عهد الرئيس فلاديمير بوتين قرأت المحاولات الأميركية للتسلل إلى محيطها الحيوي باعتبارها خطوة ميدانية لتطويق روسيا عسكريا من خلال توسيع قاعدة الحلف الأطلسي (الناتو) ونشر الصواريخ (شبكة الدروع) في بولندا وتشيخيا وتحريك ملف الأقليات في منطقة القوقاز الاستراتيجية.

قراءة الكرملين للسياسة الأميركية تطورت في السنوات الأخيرة من الاستيعاب والتكيف والقبول بالأمر الواقع إلى الرفض والتحدي وعدم القبول بالاستفزازات والاهانات. وجاء التحول في القراءة بناء على متغيرات ساهمت في تعديل التوازنات الدولية. فموسكو في العام 2008 تختلف عن تلك العاصمة التي انهارت واستسلمت للعصابات والمافيات الاقتصادية في العام 1996. وواشنطن التي قادت العالم وانفردت بقراراتها منذ تسعينات القرن الماضي تراجعت قوتها ولم تعد قادرة في العام 2008 أن تفعل ما تريد كما كان عليه الأمر في العام 2000.

عودة روسيا

الكرملين يعتبر أن روسيا لم تعد ضعيفة وأميركا لم تعد قوية. وبين هذه وتلك، قررت موسكو توجيه رسالة قوية ردا على الاستفزازات السياسية في محيطها الجغرافي والتحرشات العسكرية في مجالها الحيوي. لذلك قرر الكرملين الاكتفاء بهذا القدر من الرد وعدم تطوير الهجوم المضاد ونقله من درجة الانتصار الجزئي إلى الانتصار الكلي وصولا إلى احتلال جورجيا وإسقاط عاصمتها.

موافقة الكرملين على وقف إطلاق النار والبدء في تموضع القوات الروسية وإعادة نشرها في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا شكلت خطوة سياسية تستهدف توظيف المعركة العسكرية دبلوماسيا في قرار يتوقع أن يصدر عن مجلس الأمن بشأن أزمة جورجيا. والموافقة الروسية على ضبط الصراع الدولي تحت سقف الانتصار الجزئي تعتبر نقطة إيجابية لمصلحة موسكو، لأن الكرملين لا يريد فتح معركة مع أوروبا وخسارة ذاك التفهم الذي أبدته دول الاتحاد والحلف الأطلسي لمجريات الرد العنيف. روسيا التي نجحت جزئيا في المعركة العسكرية تحاول الآن استثمار الرد الميداني سياسيا سواء من جهة كسب المعركة الدبلوماسية في مجلس الأمن أو من جهة تحييد أوروبا وعدم إدخالها في مواجهة دولية قررت الولايات المتحدة فتحها للتغطية على فشلها في أفغانستان والعراق.

توقيت المعركة حددته واشنطن، وموسكو تحاول الآن توقيت وقف المعركة واستخدام النتائج الميدانية لإعادة تذكير أميركا بقوة روسيا وضرورة احترام توازن المصالح. وفي حال وافقت الولايات المتحدة على السقف السياسي لوقف إطلاق النار ستدخل روسيا من جديد كقوة مفاوضة تستطيع التأثير في تعديل التوازن الذي استقر في العقدين الماضيين. وفي حال رفضت أميركا الشروط التي حددت معالمها السياسية معارك جورجيا، فمعنى ذلك أن المواجهة مرجحة على الانفتاح وربما التمدد لإحباط مشروع إعادة تشكيل المعادلة الدولية.

المفاوضات الجارية الآن وراء كواليس مجلس الأمن بشأن جورجيا تعتبر الأهم في تطور العلاقات الدولية في العقد الجاري. موسكو تريد صوغ قرار يأخذ في الاعتبار النتائج الميدانية التي أسفرت عنها المواجهة الجزئية بدءا من الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وانتهاء بوقف تمدد الحلف الأطلسي إلى أوكرانيا وجورجيا والمحيط الجغرافي السياسي الذي يشكل المجال الحيوي لنفوذ روسيا وموقعها التقليدي.

حتى الآن تبدو الولايات المتحدة غير مستعدة للإقرار بمبدأ مطالب روسيا. فهي لم تبادر إلى الاعتراف رسميا بوجود مصالح روسية خاصة ومستقلة في حوضها الجغرافي وحديقتها الخلفية، بل إنها تحاول الرد من خلال تطوير هجومها السياسي مستخدمة درع الصواريخ وسيلة للضغط الدبلوماسي على موسكو. وعدم موافقة واشنطن على مبدأ المقايضة حتى الآن يشير إلى وجود خطة مضادة تريد كسر المكاسب السياسية التي حققتها موسكو في معركة جورجيا. والخطة كما يبدو تريد تعويض الخسائر من خلال تحسين فرص نشر الدرع الصاروخي في تشيخيا وبولندا وضمان أمن أوكرانيا وجورجيا تحت مظلة دولية تلعب أوروبا فيها دور الوسيط المقبول جغرافيا بين أميركا وروسيا.

الرد على سؤال «من ربح ومن خسر في معركة جورجيا» يحتاج إلى وقت لمعرفة نص قرار مجلس الأمن والفقرات التي يتضمنها. روسيا انتصرت جزئيا ولكن الفوز العسكري ليس كافيا لترسيم الخرائط وترجيح شروط التفاوض. وأميركا تلقت صفعة قوية اضطرت بموجبها إعطاء أوروبا ذاك الدور الخاص للتدخل والتوسط، ولكنها لاتزال تراهن على الاحتواء الدبلوماسي وترفض الاعتراف بوجود خصوصية روسية في حوضها الجغرافي ومجالها الحيوي. النقاش لم يتوقف واحتمالات التقدم والتراجع لاتزال واردة حتى تنتهي الدول الكبرى من صوغ فقرات قرار مجلس الأمن الذي يتوقع صدوره تحت عنوان «جورجيا»، ولكنه سيتضمن الكثير من الإشارات التي ترسم صيغة مختلفة للمشهد الدولي في أوروبا.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2171 - الجمعة 15 أغسطس 2008م الموافق 12 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً