في فلسطين المحتلة، تسير الخطة اليهودية الاستكبارية وفق السياق المرسوم لها، فالتقاتل الفلسطيني - الفلسطيني يدخل مرحلة جديدة، حيث الأخ يطارد أخاه في غزة أو في الضفة، لتكتمل الصورة المخجلة والمعيبة في العشرات الذين يلجأون إلى الجلاّد الصهيوني الذي يحاول أن يقدّم نفسه بطريقة جديدة أمام العالم، وهو الذي صنع المأساة الكبرى للفلسطينيين.
ولا يكتمل المشهد الخطير إلا من خلال الزحف الاستيطاني الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وفي القدس على وجه الخصوص، ليبلغ عدد المستوطنين في الضفة ما يقارب النصف مليون، ولتصبح المناطق التي يُحظر على الفلسطينيين الوصول إليها زهاء 38،3 في المئة من مجموع مساحة الضفة الغربية، هذا إضافة إلى الجدار العنصري الفاصل الذي يصادر مساحات أخرى من أرض فلسطين في الضفة، إذ يطرد العدوّ الأهالي من قراهم ومزارعهم، أو يحاصرهم ويقتلهم فيها.
ونحن نتساءل أمام ذلك كله عن جدوى هذه اللقاءات الثنائية بين رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس وزراء العدو، وعن جدوى المفاوضات الفارغة من المضمون والتي لا تحمل أي أمل بالدولة، باعتبار أن الطريقة اليهودية منذ احتلال فلسطين وقرار التقسيم في الأمم المتحدة وعودة اللاجئين، هي في المراهنة على عامل الوقت الضائع الذي يمنح الفلسطينيين أحلاما وردية كاذبة، من دون أن تواجه «إسرائيل» أيّ ضغط جدي من قِبَل الأمم المتحدة والدول العربية التي رفعت للعدو راية الاستسلام البيضاء قبل أن تلوّح له بالسلام في قمة بيروت، في الوقت الذي كانت المقاومة تلقّنها المزيد من الدروس وتجبرها على الخضوع لشروطها.
إننا نقول للفلسطينيين: إنّ واقع الأنظمة العربية والجامعة العربية من حولهم يمثّل الفجيعة، وواقع الدول الإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي يمثّل واقع المأساة، من خلال خوف الإدارات والأنظمة حتى من إصدار البيانات المؤيدة لهم ولقضيتهم، ولكن الفاجعة الكبرى تتمثّل في عملية القهر الذاتي التي يجلد فيها الفلسطينيون قضيتهم على مذبح تقاتلهم الداخلي، وتبادلهم الاعتقالات في الضفة والقطاع، بالطريقة التي توحي للجميع بأن الحرص على الكيانات الخاصة أصبح أكبر من الحرص على الكيان الفلسطيني الواحد الموحّد.
إنني أناشد إخواننا الفلسطينيين أن يوقفوا هذا المسلسل، وأن يلتفتوا إلى خطورة هذا الصراع الذي قد يدفع الشعب من موقع الصمود والمواجهة، إلى موقع التعب واليأس، ليفسح في المجال للكيان الصهيوني وحلفائه، وخصوصا الإدارة الأميركية، لتنفيذ خطتهم الجهنمية في استكمال المشروع اليهودي ومصادرة ما تبقّى من الأرض والقرار والقضية. ونناشد من بقي لديه مخزون من الضمير والعزة والكرامة في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، أن يهبّ لنصرة هذا الشعب المنكوب الجريح الذي وقف الاستكبار العالمي كله ضده، دعما للاستراتيجية الإسرائيلية، وانطلاقا من حقده الدفين ضد العرب والعروبيين والإسلام والمسلمين.
حرب أميركية - إسرائيلية ضد إيران
فإذا انتقلنا إلى الحرب السياسية والإعلامية الأميركية والأوروبية ضد إيران، نرى أنّ هذه الحرب تأخذ في كل مرحلة عنوانا جديدا يستدعي تحشيد معظم القوى الصناعية والنووية العالمية في مواجهة إيران، في ظلّ ذرائع واهية مفادها أن المشروع النووي الإيراني السلمي قد يتحول إلى مشروع عسكري، وهو ما يستدعي عقد مؤتمر عبر الهاتف بين أميركا والدول الغربية، إضافة إلى روسيا والصين، ويجعل هذه الدول في حال استنفار دائم، وكأنَّ إيران أصبحت على أبواب أوروبا وأميركا.
إننا نعلم، كما تعلم هذه الدول، أن الذي يُحرّكها هو الكيان الصهيوني الذي يواصل مسئولوه طرق أبواب أميركا لكي تضغط على حلفائها الأوروبيين لإبقاء هذا الملف حارا، ولطمأنة «إسرائيل» التي لا تكفيها كل هذه الترسانة النووية، وكل هذه الأسلحة الأميركية، وكل المعاهدات التي ربطتها بالنظام الصاروخي الأميركي.
لقد دخلت المسألة النووية الإيرانية السلمية في الملف الإسرائيلي الذي تتوزّع فيه أميركا والدول الغربية الأدوار، وآخر هذه الأدوار يتمثل في فرض حصار اقتصادي حادّ على إيران… ونحن نحذّر من أن ذلك يمثل إعلان حرب سياسية واقتصادية على دولة إسلامية كبرى لمنعها من الحصول على الخبرة العلمية والتكنولوجية، لأن هذا العالم المستكبر يرفض أن تبرز دولة إسلامية بنموذجها العلمي الحضاري وباكتفائها الذاتي، وهو ما ينبغي أن يدفع بالشعوب الإسلامية وحركات الممانعة إلى الاستعداد لمواجهة جبال الضغوط هذه بالإمكانات المتاحة وبالوسائل المناسبة.
صيغة حضارية لتأكيد دور المقاومة
وبالعودة إلى ملفاتنا الداخلية، فقد لاحظ الجميع كيف شعر العدو بشيء من الصدمة إزاء ذكر المقاومة في البيان الوزاري باعتبارها معنية بتحرير الأرض ومواجهة العدو، إلى جانب الجيش والشعب في لبنان، وقد بدأ حديث العدو يتصاعد بشأن القوة المتزايدة للمقاومة وقدرتها على اعتراض طائرات العدو الحربية، وربما بعث برسائل جديدة إلى قوات «اليونيفيل» لكي تتصدى لذلك، وحتى يضعها في موقع المواجهة مع المقاومة، كما أنه تدخّل لدى الإدارة الأميركية ليطالبها بعدم مساعدة الجيش اللبناني، لأنه يخشى من أن التنسيق بين الجيش والمقاومة سيجعله يدفع المزيد من الأثمان الباهظة إذا ما فكّر مرة أخرى في الاعتداء على لبنان.
إننا نرى في هذا الخوف الإسرائيلي - والذي ترافق مع قلق أميركي حيال ما ورد في البيان الوزاري - ما يمكن البناء عليه في لبنان، لأننا نتطلّع إلى مقاومة تدعم الدولة ولا تلغيها، بل تتكامل مع الجيش، وتكون سندا له في حماية إنجاز التحرير، ومنع العدوان وتحرير بقية الأرض، كما نتطلع إلى دولة تحمي المقاومين وتحترم حركتهم ومقاومتهم وجهادهم وجهدهم الكبير، ونريد للبلد كله أن يبدأ الحوار الجديّ والموضوعي بشأن صيغة يمكن أن تكون نموذجا يُحتذى به في العالم العربي والإسلامي، وفي كيف يمكن لمقاومة شعبية أن تقهر العدو، ثم تؤسس مع أقطاب الوطن كلهم تلاحما حقيقيا مع الدولة التي تقوّيها وتقوى بها.
إننا نقول للجميع في لبنان: لقد تجاوزتم مسألة الصوغ في البيان الوزاري، وبقي عليكم أن تؤسسوا الدولة القوية المسئولة المنفتحة على هموم المواطنين ومشكلاتهم وحاجاتهم، ولاسيما في مسألة الكهرباء الذي يدفع المواطن كلفتها في فاتورتين؛ واحدة لشركة الكهرباء، والثانية لصاحب المولّد، أما أسعار المحروقات، فقد أصبحت تكوي الطبقات المحرومة وتحرق ما تبقّى بجعبتهم من قدرة على الصمود المعيشي والاجتماعي.
أما الهاتف ففاتورته أيضا اثنتان، واحدة للثابت وأخرى للمحمول، وأما الأقساط التي يدفعها المواطن في المدارس الخاصة، فتتجاوز مجموع مرتّباته خلال السنة. ويعرف القادة والزعماء أن الزراعة في لبنان تموت، إذ إن كلفة الإنتاج باتت أعلى بكثير من مردود البيع، وأن الصناعة ضعفت بفعل الأوضاع العدوانية، ولاسيما ما جرى على صناعيي الضاحية الذين لم يحصلوا على تعويض… لكنّ الزعماء في ساحة الصراع حول تشكيل الحكومة التي استولدت قيصريا، واستولد بيانها الوزاري بالكمائن الكلامية، مشغولون عن وجود مواطنين يعيشون تحت خط الفقر وفي لهيب الحرمان.
إن المواطنين يسمعون عن الدولة ولكنهم لا يرونها، وقد أمضوا السنوات الطوال في انتظار أن يكون لهم كنفٌ فخاب أملهم، ولاسيما أن معظم من يرفعون شعارها اليوم كانوا مِنْ بين مَنْ هدَّموا هيكلها على رؤوس مواطنيها، فصاروا قادة وتحوّلوا إلى زعماء... وقد بدأ استنفار هذا الشعب المحروم من حقوقه المعيشية، من أجل الاستعداد لحضور المهرجانات الانتخابية التي يخطط لها الكثيرون من قادة الطائفية وزعماء المذهبية، لإدخال البلد في أجواء عصبياتهم الشخصانية والحزبية... والسؤال للحكومة الجديدة: هل تعتبرون المنصب الوزاري تشريفا تطلّون من خلاله على الناس من فوق، أو مسئولية تفتشون من خلالها عن أفضل الوسائل لحلّ مشكلة المواطنين؟
إننا نتمنى أن تنطلق الحكومة في مسئوليتها التنفيذية بشكل أمين ومخلص ومدروس ومتقن، من أجل أن تصنع الدولة المستقلة الفاعلة المسئولة عن مواطنيها.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2170 - الخميس 14 أغسطس 2008م الموافق 11 شعبان 1429هـ