حينما يجابه المثقف والناشط الحر في أي لحظة من لحظات الزمن «القروسطي» هذا من قبل رجالاته ورموزه ومحركيه ومتسلقيه الفاسدين «الألترا - طائفيين»، ولمجرد دعوته إلى تعزيز المواطنة، وتبني الطرح والحل والبديل الوطني الانصهاري بدلا من السجال الطائفي الذي لا يسمن ويغني من جوع، فإذا بهم يولولون في ما يشبه الاتهام والتسقيط والتسخيف بأنه ودعواه تلك أقرب إلى «الرومانسية» و»المثالية» منها إلى «الواقعية» وإن كانت هي منهم وفيهم واقعية «قروسطية» في النهاية!
مثل هذه الأزمة في النهاية لا ترتبط بمثل هذا الابتزاز «الرومانسي» بمسمى الخضوع لحكم العقل والواقع وإن كان هذا الواقع في النهاية وقوعي لا محالة، وإنما هي في أن البعض يحمل في فاه وفي ذهنه أثقال كلام مضمخ لا يعرف له أصلا ووزنا وجذرا تاريخيا وثقافيا ومنها مسمى «الرومانسية» و»المثالية - التراندستالية»، ويحاول أن يقلد النملة حينما تحمل قوت يومها الذي يفوقها حجمها أضعافا فيخفق في ذلك التقليد الأعمى وتتكسر أضلاعه الفكرية والمنطقية!
وإني لأجد من غريب طبائع البشر ومنهم بشر القرون الوسطى المتأخرة في لحظتنا الزمنية الفارقة هي أنهم عادة ما يستغلوا ويوظفوا بمنتهى السطحية اصطلاحات «الرومانسية» ومترادفاتها كما لو أنها انتقاص وسبة وشيء سالب بدلا من أن تكون لـ «الرومانسية» خصوصيتها ومكانتها المتفردة وإشعاعها الأصيل في سياقها التاريخي كما تشير لذلك الكلمة «Romanticism»، والتي تشمل مرحلة تاريخية غربية من الإنتاج الإبداعي والوعي التاريخي والتفاعل الجمالي الخلاق تقدر بحسب المؤرخين ما بين نهاية القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، وقد شملت هذه الثورة الإحيائية الشاملة مختلف حقول الأدب والفن والمعمار مرورا بالوعي التاريخي وغيرها من حقول الإبداع الإنساني، كما واعتبرها المؤرخون ردة فعل متمردة على المرحلة «الكلاسيكية» و«النيوكلاسيكية» التي عرفت بإعلائها وتمجيدها لقيم الانتظام والهدوء والعقلانية، فأعادت الرومانسية عظيم الاعتبار للذات والخيال والعاطفة والحلم والرؤية والمثالية!
المرحلة الرومانسية اهتمت بأفكار جوهرية تعلي من شأن وعظمة الخيال والعاطفة والإحساس الحيوي على برود العقل وهدوء الفكر، وعنت بالعودة إلى الذات الإنسانية وسبر أغوارها وأولت اهتماما فنيا بالغا بجمال الطبيعة وعظمتها، وبتحرر الإنسان «البطل» وتمرده على جمود القوالب والأنظمة على أمل الخلاص الروحي من سلطة القوانين والأعراف والقيود الشكلية الضيقة.
وما لا يعرفه بعض «القروسطيين» في بلادنا هو أنه وفي ظل المرحلة الرومانسية أولى الفنانون والمهندسون والأدباء أهمية إحيائية كبرى لتراث القرون الوسطى الأوروبي المعماري والفني والحكائي واهتموا في تعزيز الأصالة والإبداع الفني، فسلط المخيال الرومانسي اتقاده صوب تلك العصور المنسية وأعاد لها وهجها المفقود وعزز من أصالة ارتباط الإنسان ببيئته وأرضه وتاريخه وشحذ خياله الإبداعي، ولذلك ليس من المستغرب أن ينهض مفكر موسوعي وفيلسوف مثل الراحل عبدالوهاب المسيري (رحمه الله) وغيره ليعلن ويعتز برومانسيته التي لها أعظم الأثر في أهدافه ورؤاه المجددة!
الأغرب من شأن مستخدمي «الرومانسية» و«المثالية» كسبة وانتقاص واستهزاء بالآخر، هو تقليلهم السطحي والجاهل من شأن الخيال والإبداع وما لعبه عنفوانه المتفجر من دور محوري وأساسي في صوغ النظريات العلمية وفي الخلق النماذج الإرشادية والتصورات عن الإنسان والكون التي ساهمت في التراكم المعرفي والتقدم العلمي الغربي، وذلك قبل أن يكون الخيال الرومانسي دافعا ومحركا لا غنى عنه في حركات التحرير والنضال والاحتجاج والمطالبة بالتغيير وخلق الحلول والرؤى المثلى البديلة والسباقة للزمن، أو ماء عذبا رقراقا يمتح منه المفكرون والمصلحون لبناء المجتمعات الحديثة وصوغ هويتها الوطنية الجامعة، ولن أبالغ في القول انه حتى الرسالات الدينية والدعوات الفكرية لطالما عولت كثيرا على البعد الرومانسي في ما حققته من انتشار وقبول، ومثل هذا البعد لا يمكن إنكار تدفقه ولو في جوف صحراء العقل وأغوار الفكر!
وبالعودة إلى أصحابنا من مشايخ وعلماء وساسة الطوائف على شفا هذا الخراب «القروسطي» الذي تيمن به رجال دين وعلماء وساسة ومثقفين، فإننا قد نحتار في قروسطيتهم تلك التي تشف عن قروسطية مزيفة لا قروسطية أصيلة مثلما هي تفضح واقعية مثقوبة، فتجد فرسان القروسطية والواقعية أشد من يلجأ للبعد الرومانسي في استغلال المنابر الدينية وتحشيد وتحريض جمهرة الأتباع، كما أن هنالك من البعض من يسقط الآخر والمختلف بخشبة «الرومانسية» ومع ذلك يصنع من هذه الخشبة أقلاما يسطر بها مقالاته الرومانسية وأدبه الحكائي الذي يستنطق الحيوانات والطيور البريئة ليقحمها في إسقاطات مسيسة ومطأفنة تبز أدهى شياطين الرومانسية، فأنا موجود أنا أستغل، وتجد آخرين يتبنون مواقف سياسية استسلامية في الشأن المحلي شديدة الالتزام في «واقعيتها» أو وقوعيتها وفي الوقت ذاتها يتشبثون بـ «قش رومانسي» في تناول أحداث فلسطين والعراق ولبنان وغيرها من أقطار أخرى طالما أن كرة النار لم تتدحرج إلى خرقهم البالية أو الناصعة!
وما يحتاجه أمثال هؤلاء هو أن يعلموا أنه لو قيست الرومانسية الوطنية في النهاية بقرونهم الوسطى فهي في النهاية تعتبر مرحلة جد متقدمة وأكثر سبقا، ونحن بالتالي ندعوهم للعبور على جسر «الكلاسيك» والعقلانية والتنوير ليصلوا إلى فضاء وأفق رومانسيتنا، ونحن سنظل أوفياء لرومانسيتنا طالما أنها وعاء أمين لإنسانيتنا، ولن نكون كالبعض الذي أراد منها أن تكون له حذاء مثلما صنع له أحذية من العقل وأحذية من جلدة الواقع وقرر أخيرا أن يدبغ مبادئه المسلوخة حتى لا تنتن وأن يصبغها بالحناء حتى لا تبهت!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2166 - الأحد 10 أغسطس 2008م الموافق 07 شعبان 1429هـ