بخلاف ما هو شائع من أن القبيلة تعوق بناء الدولة الحديثة وفي الوقت الذي يتم التشكيك بدورها السياسي الذي غالبا ما ينظر إليه من زاوية عدم «صلاحيته» ووضعه محل الاتهام، هناك من يعيد قراءة دورها التاريخي ويوجه الاتهام لعلم الاجتماع العربي الذي تجاهل ما قدمته سياسيا وهو ما فسح المجال للرحالة والمستشرقين الغربيين برسم صورة مشوهة وسطحية لمجتمعات الجزيرة العربية.
ربما كانت المملكة العربية السعودية من الدول «الفقيرة» نسبيا في الدراسات الاجتماعية وهي «الغنية» بموادها وزاخرة بقضاياها التي لم تنل الاهتمام الكافي من قبل علماء الاجتماع حيث ذهبت معظم الدراسات للجوانب التاريخية والجغرافية والأدب والشعر والدين.
من هنا أثرت مساهمات الباحث والأكاديمي السعودي محمد بن صنيتان هذا الجانب على محدوديته. كتاب «السعودية - السياسي والقبيلة» الصادر حديثا من بيروت ينصف هذه «المؤسسة الاجتماعية» ويوضح قدراتها وفيه قراءة لموضوع يتميز بجرأة وبتناول مباشر لقضية عليها جدل كبير مازالت تداعياتها قائمة حتى اليوم يرصد فيه التحولات التي طرأت على المجتمع السعودي منذ أكثر من ثلاثين عاما.
القبيلة في مجتمعات الخليج العربي تمثل عصب الحياة السياسية إن من حيث تبوء مراكز الحكم أو من حيث مراكز النفوذ والسلطة، ففي الانتخابات النيابية التي جرت في الكويت أخيرا أظهرت النتائج والحوادث، وكما في معظم المراحل، حجم القبيلة السياسي وكونها أهم كتلة سياسية واجتماعية مؤثرة في الحياة الديمقراطية؛ فنواب القبائل الذين فازوا بالانتخابات الفرعية القبلية قبل أن تفتح صناديق الاقتراع من قبل الأجهزة الرسمية بالدولة هم من حيث الحجم الأكبر عددا من أعضاء مجلس الأمة الخمسين.
يعتقد المؤلف الذي يشغل رئاسة مركز ساس الوطني لاستطلاعات الرأي بالمدينة المنورة وبحكم معايشته ومتابعته لما يحدث في المجتمع السعودي بأن الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي الذي غذاه النفط استطاع أن يحول هذا المجتمع تدريجيا إلى مظاهر المدنية من دون أن يصل إلى مرحلة التحضر لكنه في الوقت نفسه أخفق في طمس القبيلة.
صحيح أن المجتمع السعودي حقق الانقطاع عن البداوة، لكنه لم يتمكن من الفصل عن الموروث القبلي أو الانتماء للقبيلة على رغم ما يعتري هذا التماثل من التمييز بين أبناء القبيلة البدو وأبناء القرى والمدن.
يتوقف الأمر هنا على الخلاصات التي توصل إليها الكاتب، فالدولة أظهرت تقصيرا واضحا في هذا الجانب فلم تعمل على تحضير القبائل وإطلاق العنان لحركتها لتفجير الكثير من طاقات أبنائها وكوادرها، على رغم أنها عملت على ترغيبهم في الانقطاع عن حياة البداوة ودفعهم للاستقرار، بينما انحصرت حرية رأس المال والمؤسسات والشركات في عوائل وفئات استغلت الثروة واستفادت من فرص التنمية والتحكم في الموارد، ما أفرز ظاهرة المليونيرات الجدد. وهذا ما يحملها مسئولية أخرى بإغفالها قطاعا كبيرا قام بواجبه الوطني والديني والمشاركة في مرحلة التأسيس، لكنها لم تنجح في دمج القادرين منهم في مؤسسة التنمية للدولة وتقديم نموذج عملية الانصهار الاجتماعي وواجب المواطنة.
العلاج المطروح لهذه الإشكالية من وجهة نظر الكاتب يكمن في إشراك أكبر عدد ممكن من المواطنين في سلك العلماء والمثقفين ومشايخ القبائل وجميع القادرين ليس بفئاتهم ولكن باستحقاقاتهم وقدراتهم وإنجازاتهم الوطنية وذلك على قاعدة الحد الأدنى من الديمقراطية وبناء المؤسسات المدنية.
إن عملية التغيير في المجتمع السعودي واقع ملموس وليس وهما وهي تتواصل منذ ثلاثين سنة من خلال البعثات للخارج والتحصيل العلمي والتقنية والاتصالات المدنية والتحولات العالمية السريعة، لذلك بات العلاج يستوجب الصحوة والحكمة.
تناول الكتاب مواريث المجتمع السعودي ومحددات بناء الدولة، المواريث تشمل الموروث الديني الذي يتدخل في أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية باعتباره ثقافة مجتمع، والموروث البدوي كون تاريخ الجزيرة العربية في غالبيته تاريخ بدو مع بعض الاستثناءات النادرة التي ساهمت فيها المدن في صنع التاريخ مثل مكة والمدينة والكوفة والبصرة فالنسب عند البدو أساس العصبية القبلية، وإن كان أبناء القبائل يرفضون نعتهم بالبداوة لمجرد إطلاق عموم البداوة على كل من ينتسب للقبيلة، كما أنهم يفتخرون بالبداوة عندما يقصد بها الأصالة وكذلك الموروث القبلي فهو مازال يعيد إنتاج التمايز الإجتماعي سواء ما يتصل بالوجاهة أو العمل أو الثروة.
وأهمية القبيلة في صياغة الحياة الاجتماعية بالجزيرة العربية باعتبارها تراثا اجتماعيا موغلا في القدم لم تتمكن الحقب التاريخية التي توالت عليه أن تضعفه، قد يكون من أسبابها العزلة الجغرافية التي تميز الجزيرة ما حال دون احتكاكها بأنظمة اجتماعية أخرى، إضافة إلى نظام الغزو باعتباره المحور الذي يدور حوله المجتمع القبلي و «الخوة» التي كانت سائدة في مجتمع ما قبل ولادة الدولة السعودية و «الصرة» وهو مبلغ من المال تدفعه الدولة التركية لمشايخ القبائل مقابل تأمين مناطقهم وبالذات طرق التجارة وقوافل الحجاج و «نظام الرسم» وهو مبلغ من المال مقطوع يدفعه من أراد أن يجتاز أراضي القبيلة سواء الحملة تجارية أم بقافلة حجاج.
بقي موروث التقسيم القبلي للعمل والزعامة حيث كانت القبيلة الفاعل الاجتماعي الأقوى حتى قيام الدولة الحديثة، بغياب السلطة المركزية حيث حلت القبلية مكانها وعند وجود النظام المركزي الذي تقتنع فيه تكون المخزن والمادة التي لا غنى عنها لضمان استقرار الدولة واستمرار نظام الحكم فيها أما الزعامة أو مشيخة القبيلة فيحددها بنظام الغزوة قبل بداية الدولة السعودية الحديثة، حيث مؤهلات شيخ القبيلة تحدد بمفعوله في الغزو وقيادة القبيلة على أسس من الجدارة والاستحقاق.
وبظهور عصر الدولة الحديثة انتهت ظاهرة الغزو وتحولت وظيفة القبيلة إلى حراسة الدولة أمنيا ودفاعيا، وفي الدولة الحديثة أيضا تحولت القبيلة من مصدر قوة للفرد إلى مصدر حرمان في الاستحقاق فيحرم أحد أبناء القبيلة من تبوء موقع في الدولة إذا سبقه أحد أفراد القبيلة إلى موقع مماثل.
يعزي بناء الدولة السعودية إلى الارتباط بين العامل الديني والسياسي من خلال رجل الدين محمد بن عبدالوهاب والزعامة القبلية الممثلة بآل سعود وكذلك التحالف السياسي والعسكري والذي يشار إليه «بمؤسسة الإخوان» وهم القوة العسكرية للملك عبدالعزيز آل سعود من قبائل وسط في فترة التوحيد الجغرافي والسياسي وعندما يذكر البدو في نجد فالمقصود هم قبائل الوسط وعندما يجري الحديث عن الإخوان يذكرون باعتبارهم نموذجا لدور القبيلة في توحيد الدولة السعودية ثم يأتي دور «الهجر» ومعناها القرى التي استقر بها الإخوان بعد التحول الطارئ في عقيدتهم حيث تحولوا من حالة البداوة إلى الاستقرار وجرى توطينهم أي «الإخوان البدو» بقرى خاصة بهم وعن طريق هؤلاء استطاع الملك عبدالعزيز أن يؤمن للحضر الأمن والاستقرار بتحويل القبائل البدوية في الصراعات إلى مجموعات مستقرة مسالمة تأتمر بأوامر قيادة مركزية، واستطاع الملك عبدالعزيز عن طريق الإخوان أن يرفع عن كاهل الحضر في منطقة نجد العبء العسكري ليتفرغوا للتجارة والاقتصاد والوظائف البيروقراطية بالدولة.
وفي فصل خاص يسميه «التباين والانتكاس» يروي أوجه الاختلاف بين الحليفين الإخوان وآل سعود ويضرب على ذلك مثلا «بمعركة السبلة» العام 1924 ويصل إلى نتيجة تقول إن نسبة أبناء القبائل بالنخبة معدومة وأنه لم تعط لهم الفرصة في دواوين الدولة كما أعطيت لهم أيام الجهاد من أجل توحيد المملكة والدولة السعودية بل تكاد تكون القيادات الإدارية العليا من نصيب عوائل وأسر وفئات محدودة. ووضع المؤلف جدولا يبين فيه اسماء الموظفين الذين عملوا بجهاز الدولة أيام الملك المؤسس عبدالعزيز وهو ما يؤكد إقصاء القبائل عن الإدارة منذ بداياتها الأولى ما خلف الشعور بعدم المشاركة والإقصاء عند عدد كبير من المثقفين من أبناء القبائل.
الحقيقة أن دور القبيلة السياسي لم يكن خاصية سعودية بل هو يشمل كل دول الخليج العربي التي تشكلت كياناتها السياسية بعد نيلها الاستقلال لتنتقل من مفهوم له أعراف وتقاليد إلى مفهوم جديد يتخطى حدود العصبية القبلية ليواجه نمطا آخر مختلفا تماما بوظيفته وشرعيته وقوته ويطرح مجموعة تحديات عن المواطنة والشراكة السياسية وتوزيع الثروة والرضى السياسي ومواكبة «الحداثة» من دون قطع الموروثات الاجتماعية والقبلية والدينية وعدم احتكار السلطة.
العبور نحو هذا الباب يفتح الحوار من نافذة علم الاجتماع الذي سيقيم نقاشا ذا فائدة كما فعل خلدون النقيب صاحب الآراء الحرة في علاقة الدولة بالقبيلة والصراع بينهما واقتحم مناطق محظورة تبت بعض الكتب التي تناولتها.
المسألة بطبيعتها تحتمل التباين والمحاججة وفيها الكثير من الحساسيات التي تستنفر المتضررين منها أو المستفيدين، لكنها كالمياه الراكدة كلما رميت فيها حجرا حركت الدوائر من حولها وفي ذلك تبقى الأسئلة مشروعة.
هل القبائل التي ساهمت ببناء الدولة في المنطقة الخليجية هي فعلا مهمشة ولم تعط لها «حصة» مناسبة تعويضا عن دورها ومكافأة لها؟
هل أبناء القبائل بقوا خارج قيادات الدولة ولم يتم إدخالهم في مجموعات النخب؟
هل معيار المشاركة والانتفاع بالثروة يحدده نوع الانتماء القبلي والمناطقي؟
لماذا بقيت القبيلة تشكل الملاذ الآمن لمن ينتسب إليها وليس للدولة التي أصبح مواطنا فيها بمفهومها الحديث وبنظامها السياسي المعمول به؟
هل مازالت القبيلة تمتلك امتيازات ومنافع وتشكل مصدر عيش كما كانت قبل نشوء الدولة والدخول في عصر الريع النفطي والرفاه الاجتماعي أم استبعدت هذه المجاميع ولم يتم إشراكها بالإدارة والقيادة لأسباب تتصل بالتمايزات الحضرية والقبلية والانتماءات المناطقية، أي بحسب القرب من «المركز» و «المخزان» أو بالبعد عنه؟
العدد 2160 - الإثنين 04 أغسطس 2008م الموافق 01 شعبان 1429هـ