نقل ميشال عون في لقاءاته الصحافية التي لا يتوقف الظهور فيها بطلته التلفزيونية على المشاهدين عن «زعيم» فلسطيني قوله... إذا أعيدت لك فلسطين فماذا ستفعل؟ أجاب... نبيعها مرة ثانية ثم نناضل!
القصد من تلك الرواية أن هناك «زعامات» مستعدة أن تتاجر بالوطن وبمصالح الأمة مقابل الحفاظ على الموقع والمكتسبات الخاصة بالشخص وهو معنى لا يخفي على أحد في ظل الحرتقات السياسية اللبنانية والتي يجيدها من إشتغل بهذه المهنة.
عون يطمح إلى ان يكون «زعيما» أو هو مشروع زعيم لكن في ظل الوضع اللبناني القائم بين الموالاة والمعارضة يجتهد كل فريق بتقديم صورة مشوهة عن الآخر.
أيا كانت الأهداف فالفكرة تلخص عقلية «الزعامة» العربية بما هي جزء أساسي من التراث السياسي المستمر والمتواصل وهي عقلية تعمل على طرح قضايا كبيرة وقد تفتعلها وتحت شعارات جذابة للتغطية على دور «الزعيم» ومن أجل أن لا تنتهي و»ظيفته» بل يصارع كي تبقى حية ومثارة في أذهان الرأي العام والمناصرين والحزبيين.
تكون الكلمة جاءت بالأصل من الأتراك ويكتبونها ويلفظونها هكذا «زعامت» وهي صفة للإقطاع السياسي أو الحربي فالشخص الذي يزعم شيئا أو يتوسط لشخص أضعف منه أو يكون مسئولا عنه أو عنهم هو «الزعيم» ويتكلم بالغالب نيابة عن جماعة من الناس أو طائفة من الحيوان على سبيل المجاز ويعمل بأسمهم كما في إخوان الصفاء!
عندما تقول زعيم، تعني سيد أو رئيس أو زعيم حزب أو زعيم المعارضة أو زعيم نقابي وقد تكون رتبة عسكرية خاصة في بلاد البعث أي ما بين النهرين، «فالزعيم» عرف في سورية والعراق ومن الذين نالوا شهرة واسعة «الزعيم» عبدالكريم قاسم وهو بخلاف «حسني الزعيم» فهذا إسم العائلة التي ينتمي إليها أما «الزعيم» قاسم فهو من صنف «الزعامات الفنطازية» التي تخترع أي شيء حتى تثبت زعامتها وتكتسب مكانة وهمية في البيئة التي تنشأ فيها.
من الشعارات التي رددها الشيوعيين أيام حكم «الزعيم» :
عاش زعيمي... عبدالكريمي
حزب الشيوعي بالحكم... مطلب عظيمي
المعاصرون لتلك المرحلة يروون أنه بعد إنقلاب العسكر العام 1958 على الملكية أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا عجيبا غريبا يقضي بإنجاح كل الراسبين في الإمتحانات الجامعية والمدرسية أي أن القرار يدعو إلى زحف الساقطين واللحاق بالناجحين ومن هم أعلى منهم درجة أو صف... والقرار بالطبع هدفه تثبيت قاعدة شعبية أوسع للزعيم المتربع على عرش السلطة والتي وصل إليها بدبابة عسكرية حملته إلى القصر.
كثير من الزعامات العربية إستقوت بالقبيلة التي ينتمي إليها وإمتلكت إمتيازات لم تكن تحلم بها أو أعطى لأبناء بلدته ومسقط رأسه مراكز ومواقع قيادية بالسلطة كي ينعموا بخيراتها ويضمن ولاءهم لشخصه فالعقيد القذافي على سبيل المثال جاء بأبناء قبيلة أولاد علي وصدام حسين نقل أبناء العوجة إلى مراكز السلطة وصار أفقر مواطن في قرية منعزلة وفقيرة بمثابة «زعيم صغير» في ظل الحاكم ونوري المالكي يقترب هذه الايام بجعل أبناء «الطويرج» من المحظيين بالمناصب والمتمتعين بالثروة التي بدات تظهر على أهالي القرية نفسها... وهكذا تصبح الإمتيازات والعطاءات للقبيلة أو لأبناء البلدة أو الطائفة كما فعل الرئيس الراحل حافظ الأسد مع العلويين هي الضمانة والسند للزعيم في حكمه.
لفترة من الزمن كان الرهان على الأحزاب العربية في عدد من البلدان بأن تحل مكانة «الزعامات» بتمثيل الشعب لكن التجربة لم تكتمل نجاحاتها فمقومات الإستمرر كانت غائبة وبنية القيادة والهرمية السائدة صورة مصغرة عن «الزعامة» لذلك لم تصلح لأن تكون مرتكزا للسلطة، هي عملت على أن تتسلق السلم بالوصول إلى السلطة وعندما نالت مبتغاها ذهبت مباشرة إلى الطائفة والقبيلة لتعطي لنفسها «الشرعية» اللازمة.
عبدالناصر «كزعيم» عربي إحتمى وراء العصبية العسكرية التي جاءت به إلى الحكم إستغل هذا المنصب كي يكسب شعبية واسعة لكن بعد صراعات ومواجهات مع الخصوم والأعداء بالداخل والخارج لم تستطع هذه الشعبية أن تحمي نظامه بل سرعان ما هوت في لحظات المواجهة الكبرى.
والزعامة في العالم العربي قد تلجأ لمسوغات دينية كي تضفي على نفسها نوع من الهالة والقدسية وتبعد عن نفسها النقد أو الإقتراب منها وتفصل بين مركزها العالي وبين عامة الشعب في صورة ترمز إلى من يملك السلطة بالمطلق ومن هو تابع له على شكل رعية تدين بالولاء والطاعة.
والزعامة تفترض تغييب نظام الدولة والمؤسسات وبآلية حكم مكتوبة على شكل دساتير، والممارسة العربية لهذا اللقب تسقط من حساباتها مسألة الوطن والأمة لأن الأساس بالاستمرار هو البقاء ولذلك يغلب على تاريخ الزعامات السياسية في العالم العربي صفة التقلب بالتحالفات، ولا مانع لديهم من أن ينقلوا البوصلة من اليمين إلى اليسار طالما أن هذا التحالف يخدم موقع الزعامة ويثبت أقدامها، فالتحالف هنا يتبع المصلحة الشخصية، يوم مع روسيا ويوم مع «إسرائيل» وبعد غد مع الاميركان وإذا لزم الأمر يعقد تحالفا مع الشيطان... «الختيار» أي «الزعيم» ياسر عرفات تحالف مع الإسرائيليين بمعاهدة أوسلو بعد أن برزت حركة حماس كقوة تفاوضية قوية وبديلة عنه، وبعد أن شعر «بالخطر» من تناميها كان لابد من عمل شيء يستوعب هذه الظاهرة ويعطي لشخصه مبايعة جديدة من الشعب الفلسطيني الذي صار ينظر إليه بإعتباره المخلص والرمز والمنقذ الوحيد من أزمته الطاحنة والمميتة.
انسحبت عقلية «الزعيم» على مستويات مختلفة من الحياة الثقافية والإجتماعية والسياسية وباتت نمطا عاليا من ثقافة المجتمع وعنصر جذب لدى من يرى في نفسه مؤهلات الزعامة، وهي ظاهرة اختلطت فيها المقاييس بعد أن كانت حكرا على مجموعة من العوائل والآل والأسر ذات الشأن المالي والسياسي، خطفها من هؤلاء أشخاص طارئين هبطوا على الساحة بالباراشوت أو بالمال أو بالصدفة أو بالحظ السعيد وما أكثرهم في ديار العروبة.
العدد 2159 - الأحد 03 أغسطس 2008م الموافق 30 رجب 1429هـ