تمثل الصين حضارة فريدة من نوعها فهي عريقة تاريخيا، متنوعة الفكر فلسفيا وهي حديثة اقتصاديا وتكنولوجيا ومتوسطة الحداثة سياسيا واجتماعيا. زيارة الصين هذه المرة استهدفت التعرف إلى بعد جديد ومختلف بالنسبة لي من أبعاد هذه الدولة ذات الحضارة العريقة. وهو التعرف إلى ما فيها وما حولها من فنون من خلال حضور المهرجان الثالث لبينالي الفنون في بكين الذي عقد من 8 إلى 10 يوليو/ تموز 2008 والذي تواكب وارتبط بالدورة الأولمبية في الصين.
ما الملامح العامة لهذه الزيارة؟ الواقع إن الزيارة مليئة بالأحداث والوقائع التي تعكس الطبيعة المتغيرة للصين المعاصرة ولكن يمكن تلخيص الملامح العامة في النقاط التالية:
الأولى: اهتمام الصين بالبعد العالمي للحضارة. فالصين تقليديا ركزت على نفسها والانكفاء الداخلي على حضارتها وأطلقت على نفسها المملكة الوسطى وما عداها فهم من البرابرة ولذلك أنشأت سور الصين العظيم الذي حماها من الغزاة الأجانب ولكنه لم يحل دون انتشار إشعاعها الحضاري على المناطق المجاورة أو اختراق تجارتها من خلال طريقي الحرير البري والبحري إلى الشرق الأوسط وشمال افريقيا ثم أوروبا.
اليوم يحدث تغير بالغ الأهمية وهو اهتمام الصين ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا بالعالم الخارجي. فالتقدم والتنمية الصناعية والتكنولوجية في الصين المعاصرة تعتمد على درجة ارتباطها ومن ثم انفتاحها على العالم الخارجي لأنها أصبحت تتحدث عن العولمة باعتبارها تيارا لا يقاوم ومن الضروري عدم إضاعة الوقت في مقاومته وأن من الأفضل الانضمام لهذا التيار للاستفادة مما به من مزايا.
بالطبع إن الاستفادة تتوقف على مدى قوة الدولة ومتانة اقتصادها واستعدادها العسكري وقبولها الاجتماعي. وهذا ينعكس بالتأكيد على سلوك الصين الدولي وبخاصة في القضايا التي تطرح على الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وغيرها من المحافل الدولية.
الثانية: إن الانفتاح الصيني على العالم الخارجي تعزز بحصول الصين على إقامة دورة الألعاب الأولمبية وعلى إقامتها المهرجان الدولي للفنون وتركيزها المهرجان الثالث للفنون على الروح الأولمبية والارتباط بين الرياضة والفن والثقافة والاقتصاد والسياسة لذلك. ولقد شارك في البينالي الثالث للفنون الشعبية فنانون (الرسم، النحت، التصوير والخط) من حوالي 71 دولة بلغ عدد أعمالهم الفنية 700 عمل فني متنوع وحضر المهرجان 400 فنان وتنوعت القضايا الفكرية التي عبرت عنها تلك الأعمال من الزلزال وآثاره في الصين ومفاهيم التسامح والحوار وقيم المحبة والإخاء وقيم العمل والتعاون والنجاح والنصر. وعكس هذا التنوع مفاهيم التناغم والانسجام والتأكيد على شعار «عالم واحد وحلم واحد في بينالي بكين الثاني 2006 وعلى الألوان والأولمبياد في بينالي بكين الثالث 2008» وإقامة هذا البينالي يعد تجربة جديدة في الانفتاح على الثقافات الخارجية، والتعلم منها والتفاعل معها.
الثالثة: أكد عدد من المتحدثين من الفنانين الصينيين والأجانب وخصوصا الأوروبيين رفضهم مفهوم «الموت» الذي عبر عنه عدد من المفكرين الأوروبيين في القرنين الـ18 والـ19 والأميركيين في القرن الـ20 مثل مفهوم نيتشه عن «موت الإله» ومفهوم مماثل «موت الفن»، ومفهوم «نهاية التاريخ» وما شابه ذلك من المصطلحات.
وأكد هؤلاء عددا من المفاهيم الفلسفية والأدبية والفنية وفي مقدمتها مفاهيم تجدد الحياة وتجدد القيم وتطور أوجه وصور التعبير عنها وهي صور وأساليب وطرق فنية متجددة ولكن القيم والمشاعر والعواطف الإنسانية ثابتة ولن تنتهي إلا بانتهاء البشر؛ لأن الفن هو انعكاس لقلب ومشاعر وأحاسيس الإنسان وهذه تتسم بالدينامية والتفاعل المستمر والتجديد المستمر وبروز مفهوم التنوع في إطار من الوحدة ومقابلة مفهوم الوحدة في إطار التنوع Diversity in Unity Versus Unity in Diversity.
الرابعة: برز في الندوة الفكرية التي أقيمت على مدى يوم كامل وشارك فيها فنانون من مختلف الأقاليم ارتباط الرياضة بمفهوم التنافس كبديل للصراع المسلح والحروب، وارتباط ذلك بقدرات وإمكانيات الأفراد وتفاعلهم مع بعضهم بعضا ومع المجتمع.
وكان الأولمبياد هو البديل السلمي للحروب بين المدن الإغريقية ثم تطور في العصر الحديث ليعكس التنافس بين الدول. كما طرح مفهوم ارتباط الفن بالحياة وبالمجتمع وأن الفن لا يمكن أن يعيش بمعزل عن ذلك سواء في عالم اليوم أو في الماضي عند نشأته في اليونان أو في عصر النهضة حيث التسابق والتنافس بين الولايات والمدن الإيطالية وبين النبلاء والإقطاعيين.
وبرز الفن كأسلوب ومنهج للحوار بين الفنان وذاته وبينه وبين أفراد المجتمع الآخرين وبين صور حياة المجتمع وتطوره ومن ثم أصبح الفن يعكس الطابع الإنساني وأيضا ظروف حياة الإنسان والمجتمعات. وكما عكس فن القرون الوسطى دور الكنيسة في أوروبا عكس الفن الحديث في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين قضايا العولمة والبيئة والمناخ فضلا عن قضايا الاشتراكية والرأسمالية والصناعة والعمران والنضال الوطني وحركات التحرر ومقاومة الاستعمار وما بعد الحداثة وما بعد القومية ونحو ذلك من المفاهيم المتجددة. فالفن مثل الحياة لن يموت على مفهوم الأشغال والتشبيك (الارتباط والتواصل) Networking and Engagement وأن يرى الفنان ذاته من خلال رؤيته للعالم أو يرى العالم من خلال ذاته the World or to see the World through oneself to see oneself through وهذه عملية لا نهائية من التطور Endless Evolution وتتأثر الثقافة والفن بأنواعه المختلفة بالمحيطات Ocean Culture وتفاعله مع اليابسة وباختصار يتأثر الفن وكذلك الثقافة بعاملين أساسيين هما الزمان والمكان Time and Place منذ نشأتهما وعبر مراحل تطورهما التي تنفرد بها كل حضارة وكل مجتمع في مرحلة ما من مراحل تطوره (- Art reflects perception of Time and place) و(Commonality and Differences).
وذهب الفنانون إلى أن العناصر المشتركة أكبر بكثير من العناصر المختلفة ومن الضروري الحفاظ على العنصرين.
الخامسة: أبرز عدد من الفنانين تأثير العولمة واقتصاد السوق على الثقافة حيث المواجهة بين الثقافات القوية والثقافات الضعيفة أو المعرضة Vulnerable Culture ودعوا لضرورة التسامح وسعي كل من الثقافتين للاستفادة من الجوانب الإيجابية في الأخرى في الألوان والأساليب والمفاهيم؛ لأن من الضروري أن يعكس الفن روح التسامح كما أن من اللازم أن يعكس الحرية الفردية، وفي الوقت نفسه يعكس الانفتاح على الآخر وعدم الانغلاق على الذات؛ لأن الفن يعني اللون ولا يمكن أن يظل اللون يغرد بمفرده بل لابد أن يدخل في حوار وتفاعل مع غيره من الألوان وهكذا يعيش العالم المعاصر في إطار من التعاضد Interdepependence أو الاعتماد المتبادل لكي يصبح للحياة معنى وللوجود كيان وللذات هوية ويسود نوع من التوازن بين كل المكونات في الحياة وفي الثقافة بل في ذات الإنسان بين نزعاته ومشاعره الروحية واحتياجاته المادية.
السادسة: إن الحضور العربي في بينالي بكين الثالث كان ضعيفا واقتصر على فنانين من مصر (6 فنانين) وعدد بالغ المحدودية ما بين واحد أو اثنين من البحرين والأردن وسورية والكويت والمغرب، وتونس، على حين كان الحضور الإسرائيلي ظاهرا أما حضور دول مثل ايطاليا وإسبانيا والنرويج والمكسيك وروسيا واليابان فقد كان قويا ولعل مرجع ضعف المشاركة العربية هو ضعف دور وزارات الثقافة في الدول العربية في تشجيع الفن والفنانين سواء المخضرمين أو الناشئين وقلة خبرات كثير من الفنانين العرب في التعامل مع المهرجانات الدولية.
السابعة: كان الحضور الفني المصري واضحا بمشاركة 6 فنانين مصريين منهم خمسة قدموا من أرض الكنانة (4 من الشباب وفتاة) وشاركت فنانة مصرية مقيمة في البحرين بعملها بمبادرة ذاتية واختيار المهرجان للوحات الفنية المتميزة التي قدمتها هي كوثر الشريف ولقد تم اختيار لوحاتها ليس فقط للبينالي الثالث في بكين وإنما أيضا لمهرجان الفنون الجميلة الذي عقد في أغسطس/ آب مواكبا للاولمبياد وكانت هذه سابقة مهمة لهذه الفنانة المصرية التي قام فنها على أساس الهواية والخبرة العملية التي اكتسبتها والمعرفة التي حصلت عليها بذاتها وليس على أساس التعليم الأكاديمي التقليدي.
الفنانة كوثر الشريف أقامت عشرات المعارض في مصر والبحرين والصين وباكستان خلال 15 عاما من مارستها الفعلية للفن التشكيلي وعرضها الكثير من لوحاتها من الرسم الذي عكس تراث مصر وحضارتها كما عكس قضايا المجتمع المعاصر وما يتسم به من عنف ومن معاناة المرأة والطفولة وقضايا اجتماعية وسياسية متنوعة.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2157 - الجمعة 01 أغسطس 2008م الموافق 28 رجب 1429هـ