من شأن التجارب أن تُعطي أحداث الساعة لونَ الماضي، لكنها حتما لا تُعيد قدرة الماضي على فرضِ مآلاته وفروضه على ما يجري اليوم، لأن القيمة الحقيقية من جرّ التجارب إلى السلوك هو تضمين الحركة خلاصات التجربة وتجنيبها زلل الماضي.
في يوليو/ تموز العام 1998 أي بعد عام وشهرين على انتخاب محمد خاتمي رئيسا للجمهورية الإسلامية رمى الأميركيون حجرا في مياه علاقاتهم مع طهران. وقد كانت تلك الخطوة التي أقدمت عليها إدارة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون آنذاك كبيرة ومتمايزة إذا ما تمّت مقايستها مع الخطاب الأميركي الراهن حتى مع غلبة الخيار الدبلوماسي على مشاريع الصقور في واشنطن.
مادلين أولبرايت التي كانت تتسيّد على الدبلوماسية الأميركية حينها، قالت «بالإمكان اتخاذ خطوات عملية لتطوير الصداقة مع إيران بعد أن يُزال جدار سوء التفاهم، ونستطيع إعداد خريطة الطرق التي تؤدي إلى علاقات طبيعية».
التصريح كان متزامنا مع مقابلة السيد محمد خاتمي في تلفزيون السي إن إن مع الصحافية كريستيان آمان، وزيارة وفود رياضية إيرانية إلى الولايات المتحدة الأميركية، ثم زيارة وفود أكاديمية أميركية إلى طهران كالتي قام بها جفري كيمب.
كما أن تلك التصريحات قد أعقبها خطاب إعلامي جديد بدأت به الصحف الأميركية والبريطانية التي تديرها رساميل أموال المجمّعات الصناعية الكبرى عندما أخذت تتحدث عن عهد جديد في العلاقة المتوترة بين البلدين منذ تسعة عشر عاما (حينها) ثم الضرب على وتر التباينات الداخلية الإيرانية في كيفية التعامل مع الواقع الجديد كما كانت تفعل مجلّة الإيكونوميست البريطانية.
هذا الجو السياسي والدبلوماسي الذي كان ينشط آنذاك يبدو أنه كان أكثر ديناميكية مما يحدث اليوم من زحزحة صعبة لترسبات الماضي. ورغم أنه كان كذلك إلاّ أن الأمور في النصف الثاني من عقد التسعينيات لم تُفضي إلى نتائج جديدة في مسطرة العلاقات المتوترة.
ما يجري اليوم في شأن هذه العلاقة يختلف (ليس في الديناميكية فقط وإنما في الظروف أيضا) عما جرى في السابق. ففي التجربة الأولى كانت الأوضاع في لبنان لا زالت على سكّة التفاهم السوري الأميركي الذي أعقب حرب الخليج الثانية فيما يتعلّق بموازين القوى، والذي كان قادر على استيعاب أحداث العام 1993 وتفاهم نيسان في العام 1996.
في العراق كان نظام صدام حسين لا يزال يقاتل من أجل البقاء وهو يختنق بعقوبات ظالمة. لكن صراعا إيرانيا أميركيا على أرضه لم يكن موجودا. بل إن الإيرانيين كانوا حينها يتّبعون سياسة خارجية حذرة تجاه بغداد كانت تحاكي موقفهم من غزو الكويت وتداعياته.
وفي فلسطين المحتلّة لا زالت أصداء اتفاق أوسلو قائمة وجو السلام بين الكيان الصهيوني والسلطة الوطنية الفلسطينية يفرض نفسه. وأقصى ما كان يُزعج هذا الملف هو ما عُرِف حينها بتوسيع حدود القدس الذي اتخذته حكومة بنيامين نتنياهو وإنشاء بلدية عليا وإتمام شق الطريق الالتفافي الشرقي بالإضافة إلى ملف المعتقلين.
روسيا حينها لم تعد تحمل ما يقلق الغرب ما دام بوريس يلتسين يقوم بدور رهطه فيُمزق ويُشتت كل ما ورثته الدولة الروسية الكسيحة عن الإمبراطورية السوفياتية الضخمة. وصيرورة موسكو كماخور فساد اقتصادي قاد إلى تهالك الدولة وإلى تيه اجتماعي مخيف.
هذا على مستوى التجربة. أما ما يجري اليوم بين واشنطن وطهران فهو نموذج آخر من الصراع أو التسالم. فالأوضاع الشرق أوسطية لم تعد سوى قيمة سياسية مُعتبرة تفرض نفسها وبشدة على خياري الحرب والسلم. كما أن الأوضاع في روسيا والصين هي أيضا مختلفة.
هذا بالإضافة إلى أوضاع الإيرانيين الاقتصادية والعسكرية التي بدا أنها غيّرت موازين الصراع من سقف ألفونس داماتو والعقوبات الإيرانية الليبية إلى صراع القرارات الأممية الثلاثة والتمرد عليها بحرفية وبالتفاف ذكي. بالإضافة إلى مفاعيل الملف النووي وحرب البترول المشتعلة. إن قال الأميركيون اليوم بأنهم ينوون فتح مكتب لرعاية مصالحهم في طهران فهو بالتأكيد للحد من الخسائر التي يتكبّدها الاقتصاد الأميركي كفوائد ضائعة نتيجة تلك العقوبات والتي تُقدّر بتسعة عشر مليار دولار كل عام، بالإضافة إلى فقدانه 250 ألف وظيفة كما يقول الباحث روجر هاورد.
وهي إن فعلت فلن يزيد ذلك عما هو موجود في العاصمة الكوبية هافانا والتي تحاصرها الولايات المتحدة الأميركية منذ أربعين عاما. فوجود التمثيل لا يعني التطبيع بالضرورة وإلاّ لحال ذلك دون التصعيد الأميركي ضد دمشق وفي درجة أقل بكّين.
ما يسترعي الانتباه في التطورات الأخيرة في الموقف الأميركي هو أنه مزيج من المناورة، وتحويل التنازلات إلى مشتركات ثم السّير بواقعية دون ترك العصا والتهديد. لأن السياسات التجريبية لا تتحمّل النهايات على الطريقة الميكانيكية بل عبر المصالح وتقديم الأقل قيمة لصالح القضايا الأكبر.
في لعبة المناورات لا يزيد الأمر عن إحالة الملفات المُنهكة إلى الظل لترميمها، واستعادة الملفات ذات البُنية الأكثر تحملا للالتفاف حولها. مع القدرة على قياس المسافة بين المُحال إلى الظل والمُستعاد منه لصرف النفقات وجرد الخسائر.
وفي موضوع تحويل التنازلات إلى مشتركات فلم يعد ما قالته كونداليز رايس وغريغوري شولتي من القبول بالتفاوض قبل وقف التخصيب، ثم القبول بالتعليق وليس الإيقاف، والقبول أيضا بصيغة المضاربات الإيرانية في السياسات الإقليمية (وهي أمور لم تكن تُقبل أميركيا) إلاّ إعادة انتشار لهذه المواقف ولكن على شكل مشاركات تتناغم مع الخطاب الإيراني القابل بتسوية شاملة تكون سلّتها غير مجتزأة.
وفي موضوع القبول بالواقعية يُمكن الوثوق بهذه الصيغة منذ أول جولة للأميركيين مع الإيرانيين في العراق وما تلا ذلك من إنهاء لمعركتي البصرة والصدر. ثم إنهاء أزمة لبنان وإن عبر بوابة خليجية عربية (قطر) وأوربية حليفة (فرنسا).
ثم بالوصول إلى صيغة التهديد بالعصا حين يتم تعريف الاتفاق بحضور المسئول الثالث في الخارجية الأميركية وليام بيرنز على أنه حضور «مُزَمَّن» بأسبوعين تكون خلالها الأمور قد استوت على نظام مصالح مشتركة، أو على وثيقة حرب ستستمر.
أخلص هنا إلى أن صراع اليوم بين الأميركيين والإيرانيين سينتهي حتما إلى نقطة نظام دولية سيفيق العالم على نهاياتها وقد آلت أموره إلى غير أوضاع. بالطبع لا يدري أحد كيف ستكون الأمور وبأي شكل ستتبلور لكنها حتما لن تكون حربا بالمدافع، وفي نفس الوقت لن تكون أقل مما طلبه الإيرانيون. وإذا ما تمّ ذلك فإن الأمر يعني أن خلاصات نقطة النظام تلك لن تُعطي الأميركيين كما أعطت للإيرانيين حتى ولو تمّ تفسير التنازلات على أنها مشتركات.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2152 - الأحد 27 يوليو 2008م الموافق 23 رجب 1429هـ