ينقل لي أحد الأخوة ممن عاشوا في بريطانيا، أنه عندما قامت مجموعة من العرب بتأسيس مجلة باللغة العربية، وكانوا قد وظّفوا بعض الأفراد من العرب الذين لا يحملون الجنسية البريطانية، فما كان من السلطات المعنية هناك إلاّ أنّ طالبتهم بأولوية توظيف بريطانيين، فلما أوضحوا أنّ المجلة عربية، والوظائف كلّها في حاجة لمَنْ يجيد العربية، احتجت عليهم السلطات المسئولة بأنّ وظيفة فراش وكنّاس لا تحتاج إلى مَنْ يُجيد اللغة العربية، فاضطروا لتوظيف بريطاني لهذه الوظيفة.
أمّا في البحرين فإن أمر بعض المسئولين غريب! يطمحون أنْ تتحرك السوق بشكل تلقائي لصالح توظيف المواطنين البحرينيين عن طريق رسوم هيئة تنظيم سوق العمل، ويصرّون على تجربة الرسوم وكأنهم يتحدّثون عن فئران تجارب المختبرات العلمية، وليس شعبا ما زالت حياته المعيشية تتردى كلما زاد دخل الدولة من النفط.
الإصرار لا يتوقف من أجل تطبيق فكرة الرسوم ولو من أجل إشباع فضول البعض في مراقبة التجربة ونتائجها، فتصاريح العمل ستكون بـ200 دينار (صحيفة «الوسط» بتاريخ 6 يونيو/ حزيران 2008)، مضافا لذلك 10 دنانير شهريا، لتصبح 440 دينارا كل سنتين، بمعدل 18.33 دينارا شهريا. ومن الآنَ المستوى المعيشي تعيس لأكثر الأسر، والله وحدَه العالم ماذا سيحدث حين يتم في المستقبل تطبيق رسوم بمعدل 100 دينار شهريا عن كل أجنبي؛ أي 2400 دينار كلّ سنتين، وهو المخطط له بحسب ما اقترحته مكنزي كأهم عنصر لحل مشكلة تدنّي الأجور والبطالة.
حتى مئة دينار شهريا عن كل أجنبي لن تجبر شركة كبيرة على توظيف مواطنين مخافة هذه الرسوم، فضلا عن 18.33 دينارا شهريا، وها نحن نشاهد كيف تحاول إحدى أكبر الشركات المحلية جاهدة لفصل المواطنين واستجلاب أجانب يفوق كلفتهم كلفة البحريني. وأمّا فيما يتعلّق بالمؤسسات الصغيرة فلا يمكن توفير مواطنين للعمل فيها، وذلك يعود لضعف أرباحها بجانب قسوة ظروف العمل التي لا تتلاءم مع الأجور المتاحة والمتدنية التي لن تحلها رسوم الهيئة كما سبق مناقشتها باستفاضة من قبل العديد من المنتديات والكتّاب... فلا نعرف كم ستكون قيمة المئة دينار الشرائية عندما يحين تطبيق رسوم المئة دينار شهريا عن كل أجنبي خصوصا في ظل التصاعد الرهيب في الأسعار.
المسألة ذات معادلة سهلة الاستيعاب لمَنْ يرغب في الاستيعاب، وهي أنه ما دامت السوق تحتاج إلى عشرات أضعاف ما هو متوافر من أعداد القوى العاملة الوطنية، لا يمكن اعتماد الرسوم كمحفّز رئيسي يجبر رب العمل على توظيف مواطنين عن طريق فرض مبلغ ثابت عن كل أجنبي بطريقة شمولية وبلا تمييز، يتساوى في ذلك المدير الأجنبي الذي يحصل على راتب مقداره ستة آلاف دينار شهريا مع فرّاشه الذي ينال 40 دينارا شهريا.
وحتى الدول الرأس مالية العريقة التي تعتمد الاقتصاد الحر وتقلّص تدخلها في الحياة الاقتصادية، تقوم بحماية شعوبها بشكل مباشر وتضمن لهم الأولوية على الأجانب في الحصول على فرص العمل الجيدة.
إنّ المسألة في حاجة إلى تشريعات إلزامية، وهذا ما تتهرب منه الدولة تحت دعوى تقليص تدخلها في الشأن الاقتصادي، وترجع ذلك لتبنيها الاقتصاد الحر، وهذا زعم فجّ لأنّ التشريع الذي تم بموجبه فرض رسوم على رجل الأعمال البحريني عن كل أجنبي يعمل لديه تحت دعوى إجباره على توظيف مواطنين برواتب معقولة، هو في ذاته يُعتبر تدخلا من الدولة. فضلا عن ذلك، يقع تحت تصرف الدولة ما يزيد عن 30 في المئة من إجمالي الدخل المحلي بسبب سيطرتها على النفط وحده وهذا وحده يكفي لدحض فكرة عدم تدخلها.
الحل يكمن في إستصدار تشريعات وفق دراسة غرضها تخصيص الوظائف ذات الرواتب المجزية للبحرينيين.. فما الداعي - مثلا - لتوظيف أجنبي في شركة مالية وظيفته تبديل العملات للزبائن؟
إنّ المعادلة التي تحاول الدولة خلقها لتجبر رب العمل على توظيف بحرينيين برواتب مجزية معادلة فاقدة لتوازنها، وغير قادرة على تصحيح الوضع بشكل تلقائي، وتحتاج دائما إلى تغيير العناصر الثابتة فيها حتى تصبح معادلة صحيحة، وهي الرسوم التي ستصبح تافهة حتى لو زادت مستقبلا عن 100 دينار في ظل هذا التصاعد في الأسعار.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 2151 - السبت 26 يوليو 2008م الموافق 22 رجب 1429هـ