مُعارضة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تحديد فترة زمنية نهائية أو أخيرة للتفاوض مع إيران بشأن الملف النووي أعاد فتح المسألة على احتمالات يمكن أنْ تؤدّي في حال تطورت إلى نمو تجاذبات دولية بين روسيا من جانب والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب آخر. فالتعارض على مسألة التوقيت يعكس في النهاية اختلافات في التوجهات الدولية والطرق الواجب اتباعها لمعالجة هذه المشكلة.
الولايات المتحدة أعطت طهران مهلة أسبوعين لتقديم أجوبة واضحة على تلك «الحوافز» التي توافقت عليها مع روسيا والصين والاتحاد الأوروبي. كذلك اتجهت الدول الأوروبية حين أصرّت على ضرورة الإسراع في تقديم أجوبة متكاملة قبل إعادة الملف إلى الأمم المتحدة واتخاذ قرارات دولية جديدة ترفع من نسبة العقوبات ضد المؤسسات والشركات والمصارف والشخصيات الإيرانية.
روسيا وافقت مبدئيا على هذا التوجّه الأميركي - الأوروبي وطالبت طهران بالتجاوب مع «الحوافز» في مهلة أسبوعين ولكنها عادتْ وتراجعتْ عن موقفها وأعطت فرصة زمنية أوسع حتى تتوصل الأطراف إلى تفاهمات معقولة من دون التورّط في تحديد «إطار زمني».
هذا التعديل الطفيف في الموقف الروسي من موضوع المهلة الزمنية قد يفتح ثغرة في مسألة التفاهم على جدول الإغراءات (الحوافز) ويدفع القوى الدولية باتجاه قراءات متخالفة بشأن التعامل مع الملف النووي الإيراني.
مسألة الوقت مهمّة بالنسبة إلى الإدارة الأميركية الحالية التي تضغط باتجاه التصعيد حتى لا يسبقها الزمن وتسقط قبل أنْ تتوصّل إلى صيغة نهائية بشأن برنامج بالغت في مخاطره على العالم و»إسرائيل» ثم عادتْ وتواضعتْ في تحديد مواصفاته وإمكاناته وقدراته. وأدّى تعارض القراءة الأميركية لقدرات وتقنيات البرنامج النووي - الصاروخي الإيراني بين خطورة تهدد استقرار العالم وأمن أوروبا وبين السخرية منه والتهكم عليه إلى إعادة فتح السجال الدولي بشأن حقيقة البرنامج ومدى صحة الكلام الذي يطلق عن موضوع قالت المخابرات الأميركية (16 جهازا) إن جانبه العسكري أوقف عمليا في العام 2003.
معلومات المخابرات الأميركية التي صدرت في تقرير نشر في نهاية العام 2007 أثار ضجة كبرى. فهو من جانب أحرج إدارة جورج بوش ووضعها في موقع صعب في اعتبار أنها تبالغ في تحريك مشكلة غير موجودة أصلا. ومن جانب آخر أضعف تقرير المخابرات الأميركية توجهات تل أبيب التصعيدية التي كانت تتحرك دوليا باتجاه إثارة شبهات بشأن برنامج لا وجود له من الناحية العسكرية. كذلك أحبط التقرير خطة استخدام القوّة العسكرية لمنع البرنامج من التطور. بالإضافة إلى ذلك أعطى تقرير المخابرات ذاك الزخم السياسي المطلوب للدبلوماسية الأوروبية وشجّعها على إعادة قراءة الملف من زاوية مُغايرة للتوجّه الأميركي.
تقرير المخابرات الأميركية عن توقيف إيران برنامجها العسكري النووي أعاد ترتيب أولويات التعامل مع الملف إذ وجّه ضربة عنيفة لخيار القوّة ورفع من حرارة الخيار الدبلوماسي. وأدّى هذا التحوّل إلى دفع حكومة تل أبيب (المخابرات الإسرائيلية) باتجاه تنشيط اللوبيات ومراكز الضغط في أوروبا والولايات المتحدة لإعادة فتح الملف بناء على معلومات وتقارير استخبارية تخالف استنتاجات واشنطن. فالدولة العبرية التي كانت تراهن على حليفها الاستراتيجي الدولي في إثارة المسألة وتحمل نتائج حلّها اكتشفت نفسها أنها في موقع مضاد في المعلومات. فهي تصرّ على أن برنامج إيران النووي يتطوّر باتجاه عسكري ولابدّ أنْ تتعامل معه أميركا وأوروبا بعنف قبل أنْ يصل إلى درجة يصعب التحكّم بها لاحقا. وإدارة واشنطن التي لم تتراجع عن لهجتها الحازمة بشأن الملف تمسكّت بمعلومات تقرير مخابراتها واعتبرت أنّ ما جاء فيه هو الصحيح.
التعارض المخابراتي بين معلومات أجهزة أميركية ومعلومات أجهزة إسرائيلية ساهم في تعديل خريطة الطريق الدولية وأعطى فرصة للاتحاد الأوروبي للدفع باتجاه العودة إلى التخاطب الدبلوماسي مع طهران وتشجيعها للتحاور وتقبّل تلك الإغراءات (الحوافز) لكونها تشكّل مناسبة لإعادة تأهيل إيران ودمجها كقوّة إقليمية صاعدة يمكن أنْ تلعب ذاك الدور المطلوب لتأمين الاستقرار في الخليج ودائرة «الشرق الأوسط».
قراءات إيرانية
ساهم التعارض في المعلومات الاستخباراتية بين واشنطن وتل أبيب في توليد قراءات إيرانية متخالفة في تعاملها مع الموضوع. فهناك أطراف في القيادة السياسية وجدت في اختلاف معلومات تقارير المخابرات فرصة لرفع سقف المطالب السياسية والاقتصادية والتقنية والإقليمية وغيرها من موضوعات باردة وساخنة. واعتمد هذا الفريق على مسلمة مطلقة وهي أنّ احتمالات الحرب تراجعت إلى درجة الصفر كما قال وزير الخارجية الإيراني في الأسبوع الماضي في فيينا أو كما كرر الرئيس الإيراني قناعاته السابقة التي تؤكّد أنّ احتمالات الحرب غير واردة بنسبة مئة في المئة. وبما أنّ استخدام القوّة ليس واردا برأي هذا الفريق فلابدّ من الذهاب إلى الحد الأقصى في عملية التفاوض مع أوروبا.
الفريق الآخر في القيادة السياسية الإيرانية يرى أنّ هناك فرصة للتفاوض على الحد المعقول دوليا وبالتالي القبول بالحوافز المعروضة ومن ثم الدخول مجددا في سياق تطوير بعض العناصر والمطالب التي تضمن استقرار المنطقة وتطوّرها الاقتصادي المستقل عن المظلة الأميركية.
الاختلاف بين الطرفين في داخل الإدارة الإيرانية يشير إلى تعارض في التوجهات السياسية وأسلوب التعامل مع ملفات المنطقة بدءا من العراق وانتهاء بفلسطين ولبنان. وهذا التعارض السياسي في التعامل مع الملفات الإقليمية يعتمد في النهاية على رؤيتين في تقدير الموقف الدولي وموقع الولايات المتحدة في إدارة ملفات المنطقة. الفريق الذي يرفض «الحوافز» الأوروبية ينطلق من مسلمة أنّ أميركا ضعيفة وغير قادرة على خوض «حرب ثالثة» في الشهور الأخيرة من عهد شارف على توديع العالم. وهذا الضعف العضوي واللوجستي والبنيوي يترجم نفسه ميدانيا في أفغانستان والعراق وفي تغير مزاج الشارع الأميركي (الناخب ودافع الضرائب) وصولا إلى تقرير أجهزة المخابرات التي جزمت بانّ إيران أوقفت الجانب العسكري من برنامجها النووي. واعتمادا على مسلمة الضعف يتجّه الفريق المتصلّب إلى تطوير هجومه السياسي مُترافقا مع إرسال إشارات تطمين بشأن الصداقة مع شعب «إسرائيل» وتسهيل مهمات قوّات الاحتلال في العراق وأفغانستان في إطار لقاءات «فنية» و»تقنية».
أمّا الفريق الإيراني الذي يضغط باتجاه الموافقة على «الحوافز» والانفتاح السلمي على ملفات المنطقة وضمان استقرارها الإقليمي فإنه يشكك بمسلمة الضعف الأميركي ويرى أنّ احتمالات المواجهة مفتوحة على أكثر من صعيد. فالفريق التسووي في طهران لا يُبالغ في المراهنة على «ضربة حظ» ويرفض اعتماد تلك القراءة التي تنطلق من «الصفر» التي يقول بها وزير الخارجية أو «مئة في المئة» التي يقول بها الرئيس الإيراني. لهذا يتجّه الفريق التصالحي (خاتمي، رافسنجاني، ولايتي) إلى الدفع نحو التلاقي مع أوروبا على قاعدة القبول بالحوافز بضمانات دولية روسية وصينية حتى لا تنزلق إيران وتقع في كمين تدفع ثمنه بسبب حسابات خاطئة وخطوات ناقصة وغير مدروسة.
حتى الآنَ تبدو الرياح تسير باتجاه تعزيز قوّة اندفاع سفينة الجناح المتصلّب في القيادة الإيرانية. فهذا الفريق مطمئنٌ إلى درجة عالية من الوضوح وخصوصا أنه ميدانيا يتعامل بواقعية مع واشنطن ويطلق إشارات براغماتية تعاكس في جوهرها كلّ تلك البالونات الحرارية والصواريخ الأيديولوجية والتهديدات البخارية. فالكلام الكبير المعطوف على رخاوة براغماتية يعاكس الفعل، وهذا ما يمكن فهمه من إعادة قراءة تصريح صهر الرئيس الإيراني الذي أكّد أنّ «الجمهورية الإسلامية في إيران تشكّل مطلبا أميركيا». ومثل هذا التصريح الذي أطلقه نائب الرئيس وصهره اسفنديار رحيم مشائي يُعطي صورة مُغايرة لمسلمة الضعف الأميركي. فالكلام يؤكّد معطى «الحاجة» الأميركية لإيران وربما احتمال تطورها إلى وظيفة إقليمية.
المسألة معقدة وهي تظهر على الشاشة السياسية بأشكال مختلفة ومجموعة ألوان متخالفة في توجهاتها المبدئية والبراغماتية. ولكن عامل الوقت يلعب دوره في تسريع الخطوات وترسيم الصورة الحقيقية التي تبدو ملتبسة في عناصرها التكوينية. فالعامل الزمني تتداخل في صنعه مجموعة انفعالات منها أن الإدارة الأميركية تريد الإسراع في عقد صفقة بشأن الملف النووي خلال مهلة أسبوعين بينما وزير خارجية روسيا يعترض على الأطر الزمنية. وهذه مشكلة دولية أخرى تتجاوز حدود إيران الجغرافية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2150 - الجمعة 25 يوليو 2008م الموافق 21 رجب 1429هـ