العلامة شبه الغائبة، أو المفاصل شبه الغائبة في علاقة المثقف بالسلطة هي أن الذي يرصد تلك العلاقة سواء من حيث التأريخ لها أو من حيث تحليلها وتفكيكها هو المثقف لا السلطة، وبالتالي يغلب الحكم أو تسود «توصيفات» هي في حقيقتها نسخ كربونية تدور فكرتها حول سعي السلطة الحثيث لاحتواء المثقف، فيما تغيب علامات أو مفاصل في التحليل والتفكيك ذاك، أو - بمعنى أدق - يتم تغييب حقيقة أن المثقف في سعيه لسلطة ما يمارس الاحتواء ذاته، والأهم من كل ذلك أن المثقف - إلا من رحم ربك - لن يتردد لحظة في اختزال أمد سعي السلطة لاحتوائه، سواء تم ذلك عن طريق مباشر أو عن طريق غير مباشر.
يتهيأ المباشر من ذلك الطريق في الخطاب المهادن والمستميل من جهة أو في الخطاب المنعزل في صورة شبه كلية عن مَوَاطِن الخلل والتجاوز من جهة أخرى. أما غير المباشر من ذلك الطريق فيتبدّى في صور قمع يمارسها المثقف ضمن دائرته، وتدور موضوعة ذلك القمع في ما يتم إنتاجه وهو على مبعدة منه من حيث القناعات به أو من حيث استقباله، مع تسلّح مسبق بأدوات رفض ذلك النتاج، ليتحول من جهة إلى «وكيل غير معلن» للسلطة يقوم بجانب من دورها؛ مما يمهد للانتقال إلى «مربعها» من دون أن يكون مرصودا بشكل سافر في «كشوف بركتها»، ومن جهة أخرى يمهد الطريق لكسر حال من العزلة يعيش تفاصيلها - بهكذا تعاطٍ مع محيطه ونتاج ذلك المحيط - مما يعد تصريحا لا يقبل الشك في دعوة مفتوحة للسلطة لإدخاله تحت مظلتها!
***
اللعب على تجاوز مرجعيات الثقافة واحد من الوجوه التي يعمد المثقف إلى تبنيها في طريق استمالة السلطة له وفي طريق دعوته المفتوحة لأي احتواء.
القراءة المغلوطة للتاريخ - على سبيل المثال - الذي تريد السلطة التشويش عليه والانعطاف به وتغييب مفاصل منه، وتأكيد حضوره كما تريد، واحد من المحفزات التي تدفع السلطة من دون تردد أو شعور بانتقاص في الهيبة لإدخال المثقف تحت مظلتها، والتاريخ - بالمناسبة - ربما يكون أكثر مرجعيات الثقافة فاعلية وإغراء للسلطة، وخصوصا إذا ما عمدت القراءات المغلوطة إلى «تصحيح» ما تعتقد السلطة أنه يضفي مشروعية أو أحقيّة لحضورها وتسيّدها الزمن الذي تمسك بمقدّراته وبشره وأشيائه.
***
ما الذي تسعى إليه السلطة في متوالية الاحتواء تلك؟ هل تسعى وراء احتواء الثقافة بالدرجة الأولى من خلال المثقف؟ أم أنها تسعى إلى احتواء المثقف من خلال الثقافة؟
يبدو الأمر كأنْ لا فرق ولا ترتيب في الأولويات لدى السلطة، فيما المسألة لا تخلو من فروقات وفيها تأكيد للأولويات في هذا الصدد. إلا أن أسهل الطرق لتدجين أية ثقافة وتقليم أظفارها يتضح أفقها في احتواء المثقف أولا فما سينتج من ذلك الاحتواء سيولّد بالضرورة ثقافة مفرغة من مضامينها الحقيقية وديناميكيتها وحركيتها. إلا أن السلطة في كثير من الأحيان تظل تتبنى موقف المراقبة والفرجة على حال من الاصطراع والتكفير والتكفير المضاد، وتظل تصطفي عبر تلك الفرجة نماذجها القابلة للاحتواء من دون أي مساس بالهيبة كما أشرت سابقا - هيبة العرض - إذ كثيرا ما ينتج من مثل ذلك الاصطراع والتكفير والتكفير المضاد وما يتبعه من ملحقات... التخوين... العمالة... إلخ تبدّل وتغيّر قواعد ومواقف يجد بعض المثقفين فيها بغيتهم إما إشباعا لنهم السلطة لديهم وإما بحثا عن مظلة حماية تكسبهم بعض الهيبة الممرّرة من المركز.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 2147 - الثلثاء 22 يوليو 2008م الموافق 18 رجب 1429هـ