إنها لمصيبة كبرى أن تصاب المحكمة الجنائية الدولية بعمى الألوان فتقضي على بصرها وبصيرتها معا...
هذا أقل ما يمكن أن يقال بحق مذكرة التوقيف التي أصدرها مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو على الرئيس السوداني عمر حسن البشير. ليس ثمة شك في أن الحكم ارتكز على حيثيات سياسية وليست قانونية، فمنذ متى كانت المحكمة تذرف الدموع على الضحايا، ولماذا لم تنهل دموع القاضي أوكامبو سوى الآن، والآن فقط؟!
من حقنا كشعوب أن نتساءل: أين المحكمة الجنائية الدولية من أرييل شارون وإيهود أولمرت، أينها من قانا وصبرا وشاتيلا ودير ياسين؟ أينها من جزاري الشعوب؟ أينها من ناحري الحرية؟
لماذا لم تنهمر دموع السيد أوكامبو على أطفال لبنان ولا أطفال غزة ولا حتى أطفال العراق وأفغانستان؟ وما أكثر الضحايا، وإذا كان احتلال أرض وطرد شعب كامل وممارسة الفضاعات التي يندى لها الجبين بغطاء دولي كامل لم تحرك جفنا للسيد أوكامبو ولا لمحكمته، فالأولى أن نرفض نحن من يصادر إرادتنا باسم القانون وباسم الدفاع عن الضحايا.
من الواضح تماما أن المحكمة ليست مسيسة فحسب بل إنها سياسية أصلا، فالهدف المخفي من وراء دموع التماسيح هو إسكات كل صوت يصدح بالرفض للسياسات الامبريالية حول العالم؟ إنها شهوة شرعنة الظلم وتقنين نزوة الاستئثار بمقدرات الشعوب، والذريعة هي تحقيق العدالة!
ماذا تريدون من عمر حسن البشير؟... ليس دفاعا عن هذا الرجل، وليس دفاعا عن الانتهاكات البشعة في جنوب السودان، ولكن إعمالا للحق، هل ستتحقق العدالة وينعم المستضعفون في العالم بالحرية إذا تم توقيف البشير، إذا كان البشير مخطئا - ونحن لا نبرأ ساحة أحد - فلتذهبوا لكل المستكبرين بعروشهم في العالم من أقصاه إلى أقصاه.
قالوا «إن المحكمة الجنائية الدولية تعتبر ضمانة حقيقية للسلم والأمن العالمي وقد كان حلما يراود الضحايا على مر العصور، وهو من أكبر إنجازات البشرية في مجال القانون الدولي على الإطلاق بعد إنشاء الأمم المتحدة سنة 1948»، ونحن نتساءل لماذا يحاولون تصوير هذه المحكمة بأنها المنقذة للبشرية، وأنها أكبر حضارة قانونية في تاريخ الانسانية... عفوا، المسألة ليست على هذا النحو تماما.
سنحترم المحكمة الجنائية الدولية إذا أصدرت مذكرة قبض بحق من ساهموا في الانقلاب على الديمقراطيات المنتخبة حول العالم، سنحترمها إذا أصدرت مذكرة توقيف بحق مرتكبي الحماقات الكبرى في التاريخ الحديث والمعاصر، وإلى حين تثبت المحكمة للعالم عدم ازدواجيتها ستكون لنا كلمة أخرى.
لقد أحسن العرب صنعا أن سارعوا في رفض مذكرة المحكمة، ونحن واثقون من أن نواياهم (الأنظمة العربية) ونوايانا (الشعوب العربية) من الرفض مختلفة، ولكن ما يجمعنا على الأقل هو رفض «العدالة العوراء»... رفض العدالة القاصرة... رفض كل مذكرة هدفها هدر ما تبقى من كرامة هذه الأمة.
كانت في السابق تساورنا شكوك بشأن هذه المحكمة، ولكن الآن تحولت الشكوك إلى يقين بعدما اتضح لنا جليّا أن هذا العالم قد اختلفت فيه الموازين، إنه عالم للكبار فقط... للمستكبرين فحسب... وليس مسموحا في هذا العالم الذي يشع بالظلم والظلام أن يكون للمحرومين فيه مكان، بل هناك من هو مستعد للرقص على الجراحات من أجل غاية في نفس يعقوب.
والله، سنرفع قبعتنا للسيد أوكامبو إذا أثبت لنا شيئا من صدقية هذه المحكمة، ومن باب النصح لا أكثر - إن كان من حقنا النصح في العالم الجديد - نقول لأوكامبو: لا تتشبث بالحلقة الأضعف، سيدي الفاضل... ليس هدفنا هو منع العدالة من أن تأخذ مجراها، وليست غايتنا حماية الدكتاتوريات العربية وما أكثرها، بل شعوب أمتنا هي من تجاهر بالرفض لممارساتها الوحشية طيلة عقود من الزمن، ولكن أمام الظلم الأكبر يجب أن نعلو على جراحاتنا وندوس على ذواتنا لنحفظ كبرياءنا إن بقي لنا من كبرياء يمكن أن يحفظ؟!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2146 - الإثنين 21 يوليو 2008م الموافق 17 رجب 1429هـ