يدان وحدثان في يوم واحد هو يوم الأربعاء الماضي، الأولى تمتد في اسبانيا لتحاور أتباع الديانات السماوية وغيرهم والثانية توجه صفعة من العيار الثقيل للكيان الغاصب، الذي تربع على أوطاننا منذ ستين عاما، يضرب ويقتل ويحتل ويزبد ويرعد ويتوعد.
اليد الأولى يد خادم الحرمين الشريفين، التي تعددت مبادراتها الحوارية، فبدأتها من الدائرة الصغيرة (الحوار الوطني) ليتسع ذلك الحوار شيئا فشيئا ويصبح حوارا إسلاميا عالميا، ثم ينفتح على أتباع الديانات والرسالات السماوية، ناظرا للإنسان كانسان وموسعا دائرته إلى أتباع الديانات الوضعية.
خطوات خادم الحرمين الشريفين مهمة ومتقدمة إذا قرأناها ضمن تجاذبات البلد الذي أفرزها، وفهمناها معالجة هادئة لأفكار التطرف الذي عززه الزمن في زوايا كثيرة من ثقافتنا ونواحي حياتنا وعلاقاتنا، إنها بكل اختصار السند والعضيد السليم للمتابعة الأمنية التي بدأتها دولتنا تجاه التطرف والإرهاب.
إن هذا الحوار الذي بلغ ذروته بحوار اتباع الأديان السماوية، آن له أن يعود للحوارات السابقة، وليبدأ بأولها وأصغرها وأهمها وهو الحوار الوطني، إذ من المهم بعد كل الأوراق التي قدمت والأفكار التي نوقشت والتوصيات التي رفعت أن نجتاز ما أفرزه (الحوار الوطني) من مكاسب على الصعيد النفسي، لكل أطياف المجتمع، وما أوجده من استرخاء وشعور بالأمل في وجدان كل إنسان حافظ على طهارته وصفاء فطرته.
آن الأوان أن نجتاز كل ذلك إلى ارض الواقع، كي نبذر فيها بذورا عملية توتي أكلها كل حين، إن الانتقال من الفكرة إلى العمل ومن الحوار إلى الفعل، ومن التوصيات إلى تمكينها على ساحة الواقع هو الثمرة الحقيقية للحوار، ومن دونها سنراوح في المكان نفسه وإن كانت الأطروحات تزن ذهبا وألماسا على الأوراق وفي المؤتمرات.
ومع كل الشعور بالصعوبات التي تواجه خادم الحرمين الشريفين، وتعاند جهود التطبيق الفعلي والعملي، فإن الثقة عالية في نفوسنا بأن اليد التي أوجدت الحوار في بلادنا من العدم تمتلك ما يلزم ليبدأ حركته في ميدان الفعل والواقع.
أما اليد الثانية فهي يد الصمود والتحدي التي عرفت بها شعوب العالم العربي والإسلامي، ومثلتها في هذه اللحظة الراهنة المقاومة الإسلامية في لبنان فنحن أمام انجاز جديد ونصر باهر وهزيمة لأعداء أمتنا تجرعهم الذل والمهانة في أمر وأقسى صورها.
نحن أمام حدث يستحق الكثير من التأمل والمزيد من التواضع والإصغاء، ومن الخطأ أن ننظر إليه من زوايا طائفية وعقدية ضيقة، وعبر عدسات قاتمة، وخطوط حمراء وسوداء.
من الخطأ أن يكون الاختلاف في وجهات النظر مانعا من أعادة النظر، فنحن الذين نبحث عن مشتركات مع أتباع الديانات الإلهية والوضعية، لدينا الكثير من المشتركات مع بعضنا، ولدينا كذلك أعداء مشتركون، ومن الظلم لأنفسنا ولمجتمعنا وقيمنا أن نجعل الخلاف منظارنا الوحيد لجهود الآخرين وانتصاراتهم، وأن نتعامى عن مناطق الاتفاق والاشتراك معهم.
وهنا أدعو إخواني الكتاب وأصحاب الرأي الإعلامي، الذين أشبعونا فيما مضى بقسوة الكلام على بعضنا، ان يتواضعوا قليلا لحقائق الواقع، لعلنا نقرأ على أيديهم ما يجمعنا ويرفع مستوى تحدينا، وينفخ روح الكرامة في وجداننا من جديد.
نحن في لحظة جديدة وولادة كريمة، ومنعطف له ظلاله على واقعنا ومستقبلنا، وكل ذلك يستحق منا أن نعيد قراءة تحاليلنا السياسية والعسكرية وتنظيراتنا الثقافية، وهذا فيما أظن وعي وحكمة وأمانة نحن أولى من يتمسك بها.
لعل إعادة القراءة هذه تشجعنا من جديد ليتقد الأمل في نفوسنا، وننتظر بفخر وكبرياء فرحة جديدة، تنطلق هذه المرة من غزة، في صفقة تبادل أوسع واكبر وأوجع للكيان الغاصب.
في انتظار تلك اللحظة القريبة جدا، لا تقسوا على مقاومة غزة وصناع لحظات النصر المقبلة فيها (كي لا يتحول واقعنا إلى كتاب مقاومين وكتاب اعتدال مهرولين)، شدوا على أيديهم وانصروهم، وكونوا عونا لهم على عدوهم، مع كل اليقين الذي أثبتته التجربة، بأننا ككتاب سواء أكنا معهم أم ضدهم، فهم ماضون إلى كرامتهم وانتصارهم، لأنه عهد رسمته دماؤهم وتضحياتهم، أما مقالاتنا فهي تمزيق داخل وتحريف لمسارات الأمور، وفي ذلك ظلم لأنفسنا وأهلنا وقيمنا، أما غزة فالصبح فيها قريب إن شاء الله.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 2145 - الأحد 20 يوليو 2008م الموافق 16 رجب 1429هـ