العدد 2135 - الخميس 10 يوليو 2008م الموافق 06 رجب 1429هـ

الأحزاب العلمانية وتعارضها مع الكتلة التاريخية

الإسلام والغرب... والفكر المعاصر (2)

ساهمت علاقات التحديث الغربية التي تسربت إلى الداخل الإسلامي وسبقت عملية استكمال السيطرة العسكرية الأجنبية مساهمة فعالة في التمهيد للمرحلة اللاحقة. وعلى قاعدة تسلل عمليات التحديث الغربية انتعشت التيارات الاقلاوية الطائفية والاتنية التي تبلورت بعد فترة في اتجاهات وتيارات سياسية «علمانية» وتقسيمية وانعزالية.

لعبت الإرساليات التبشيرية دورها الثقافي والفكري في ضخ مناهج وخطوط وأدوات معرفية غربية، استعملها المثقفون في وقت لاحق لتفسير تاريخنا وفق مقاييس غير متكيفة مع ظروفنا، ما جعل المثقف الحديث صورة مطابقة للمجتمع الغربي في منطقتنا. وليس صعبا أن نجد في كتابات ما يسمى بأدباء «النهضة العلمانية» في بلادنا الكثير من المفاهيم والاتجاهات التي ترى في الغرب النموذج الذي يجب الاقتداء به. وبفضل هذه «الثقافة العلمانية» تفرعت الأحزاب والمنظمات السياسية التي انتهجت على مستوى الممارسة والنظرية طرقا وأفكارا مجبولة بتربة ومناخ تلك الثقافة الغربية.

كانت الأحزاب العصرية والحديثة على صورة ومثال المثقف العصري والحديث الذي نشأ وتبلور أساسا في ظل نمو علاقات الهيمنة وفي إطار غلبة التوازن الدولي لمصلحة الغرب. وبدلا من أن تقوم الأحزاب والمنظمات السياسية، على نهج الصراع ضد تلك الاتجاهات الغربية، كانت استمرارا عضويا لها، حين انتقت ما هو مناسب لها ورفضت ما هو غير مناسب. ووسط هذه الانتقائية السياسية والفكرية للأحزاب والمنظمات ظهرت البرامج التغريبية والتحديثية، التي أدت إلى ابتعاد القيادات المعاصرة عن تاريخها الخاص وطريقها نحو التغيير. وبدلا من أن تبتكر وسائلها اعتمدت الأفكار والمناهج التغريبية أدوات معرفة لمواجهة الإسلام.

يمكن القول إن الأحزاب والمنظمات السياسية القائمة حاليا في وطننا العربي والبلدان الإسلامية المختلفة هي البنت الشرعية لمجموع الاتجاهات والأفكار «النهضوية» التي تبلورت ونمت في مرحلة السيطرة الغربية. وليس غريبا أن نجد أكثرية قيادات الأحزاب والمنظمات العلمانية، جاءت من وسط الأقليات الدينية والاتنية، بينما نرى في المقابل أن الأكثرية (الكتل الشعبية) في المنطقة العربية - الإسلامية تقع في غالبيتها العظمى خارج دائرة الأحزاب المذكورة. وتفسير هذه الظاهرة ليس مسألة صعبة. فمجرد عودة سريعة إلى الأصول الاجتماعية والفكرية والتاريخية لكل تيار أو حزب أو منظمة، نجد أنهم يشتركون على رغم كل خلافاتهم النظرية والمنهجية والمعرفية، في الانتماء إلى التربة عينها مع استثناءات بسيطة بين هذا الطرف أو ذاك.

هذه الأصول المشتركة تشكل الأساس التاريخي، الذي يجمع الأحزاب والمنظمات العصرية، على رغم كل الاختلافات والخلافات الايديولوجية، في خانة سياسية واحدة تقوم على الابتعاد عن الأكثرية الإسلامية. وسبب هذا التنافر المتبادل بين الأحزاب العلمانية والأكثرية الإسلامية يعود إلى الطرفين:

الأحزاب تخاف من الاندماج في مصالح الأكثرية لأن ذلك يفرض عليها إعادة نظر كاملة في تركيبها وفكرها واتجاهاتها وعلاقاتها وبرامجها السياسية. وهذه الكلفة ليس من السهل دفعها بعد مرور هذا الزمن الطويل على تأسيسها ونشوئها.

الأكثرية بدورها تخاف من الأحزاب العلمانية لأنها ترى فيها مجرد تجمعات اقلاوية تطرح برامج واتجاهات غير مناسبة لمصالحها وطموحاتها وتاريخها، كما تجد خطا سياسيا ينزع نحو فرض تنازلات على حقوقها الثابتة واستبدالها بحقوق وأنظمة وشرائع غربية ذاقت منها الأمرين خلال تجارب الهيمنة الأجنبية.

هنا يبرز السؤال الآتي: كيف نصل إلى نوع من التطابق بين الأكثرية الشعبية وبرامج التقدم السياسي الوطني والاجتماعي؟

لابد في الدرجة الأولى أن يستند هذا التطابق الجدلي بين الوعي التاريخي والواقع الاجتماعي إلى عملية نقد كاملة للتجربة الحزبية، التي كانت بوجه من الوجوه، التكثيف النظري المجرد لوحدة ومصالح الأقليات الاتنية والدينية والانفصالية في المنطقة. وعملية النقد هذه ليست بالتأكيد عملية هامشية بل يجب أن تبدأ، لضمان نجاحها من نقطة إعادة النظر الشاملة في قراءة الماضي وبالتالي «المستقبل». ولن تتم هذه العملية إلا بعد الإجابة عن سؤال وهو: ما هي العلاقات التي قامت وتقوم بين الرأسمالية والإسلام؟ وهل هذه العلاقات علاقات تعايش سلمي أو حرب باردة أو عنف متبادل؟

هناك إجابات عن هذا السؤال ولكنها ليست متفقة على منهج موحد وموقف مشترك. وتعدد الإجابات يعكس بعض التردد والارتباك في وسط الأحزاب والمنظمات السياسية. وفي العودة قليلا إلى الوراء انتهاء إلى بعض الكتابات الغربية التي تستقي منها الأحزاب والمنظمات العصرية أفكارها، يلاحظ أن هناك اتفاقا مبدئيا فيما بينها على أن الإسلام وشعوب الشرق إجمالا مجرد مجموعات بشرية ساكنة ومستقرة تتحكم فيها قوانين أو أنماط إنتاج متخلفة ينبغي تحطيمها حتى يمكن دفعها باتجاه النمو والتقدم.

إذا استعرضنا قليلا الموقف الماركسي (مارس - انغلز) بوصفه من أرقى أشكال المعرفة المادية التي أنتجها الغرب الأوروبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نلمس أيضا حالات من الارتباك والتناقض في الموقف الأصلي - النظري من هذه المسألة - السؤال. فالماركسية (مارس - انغلز) في مرحلتها الأولى أيدت الاستعمار الأوروبي ووقفت إلى جانبه في غزواته ومحاولات سيطرته على الشرق والمناطق الإسلامية، إذ وجدت في هذه الفتوحات الاستعمارية خطوة تقدمية على المستوى العالمي لأنها تقوم على رؤية توحيد العالم وفق «النموذج الأوروبي» أي ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي العالمي. ثم تخطت الماركسية في فترة ثانية، مرحلتها الأوروبية، إذ رأت في الاستعمار سلبيات وإيجابيات في عملية فرض سيطرته على الشرق والبلدان الإسلامية. وحددت الماركسية السلبيات بالفظائع والجرائم التي ارتكبها الاستعمار في مرحلة توسعه وامتداده ولكنها وجدت أيضا أن هناك إيجابيات كثيرة منها تحريك الجمود التاريخي لهذه الكتل البشرية، وذلك عبر تحطيم أنماط إنتاجها المتخلفة وإدخال هذه الشعوب قسرا في دائرة إنتاجية متطورة. ولكن مفهوم السلبيات والإيجابيات لم يدم بدوره طويلا، إذ اكتشفت الماركسية في أوراقها الأخيرة، أن عملية التنمية الأوروبية فشلت، فأدت كل محاولات التطويع للمجموعات البشرية إلى تدمير أنماطها الإنتاجية الخاصة وإلحاقها بعجلة الغرب ضمن دائرة التبعية. ولم تؤدِ بحسب المنهج التفسيري السابق إلى قيام أنماط إنتاج متطورة مستقلة عن الغرب.

هذا الارتباك الماركسي الأصلي في الموقف من مسألة الاستعمار واتساع رقعة شبكة العلاقات الرأسمالية العالمية، ساهم في إرباك الكثير من الأحزاب والمنظمات اليسارية العربية في فهم خصوصية المنطقة ونمط علاقاتها الإنتاجية. لذلك فالقراءة المنهجية لتاريخنا ستساعدنا على معرفته أكثر وبالتالي على معرفة مفاصل حياتنا الراهنة بصورة أكثر واقعية ودقة مفهومية متطابقة مع مسيرة تطورنا. وربما أدت هذه القراءة الثانية إلى إعطاء الجواب المطلوب لمعرفة حقيقة العلاقات بين الرأسمالية والإسلام.

ما نراه اليوم من حوادث وانتفاضات وخروج سياسي في الكثير من المناطق الإسلامية والعربية هو البرهان القاطع على عملية الانقطاع القائمة بين دورتين. فالحركات الإسلامية اليوم تعبر عن حالات استعادة الذات لمواجهة الغرب بعد فترة طويلة من الركود. ولهذا لم تكن عملية الاستعادة هذه سلمية بل عملية عنف متبادل. فالاستعادة تشبه آليات السيطرة الاستعمارية التي لم تكن سلمية ولم تتعايش إلا بالقوة في مواجهة الإسلام وخصائصه فإن عملية الانفكاك لن تتم إلا بالعنف والمواجهة مع الغرب. فالغرب لن يتنازل للإسلام بسهولة عن مواقعه والإسلام لن يستعيد مواقعه الأصلية كاملة بالتفاهم والتعايش مع الغرب.

ذاكرة التاريخ تكشف عن أن العلاقات لم تكن بين الطرفين إلا علاقات عنف. في المرحلة الأولى أخذت طابع المجابهة العسكرية ضد الجيوش الغازية، وفي المرحلة الثانية أخذت طابع المجابهة السياسية والثقافية للمدارس والإرساليات والمفاهيم، وفي المرحلة الثالثة أخذت طابع المجابهة الاقتصادية والاستراتيجية، واليوم تأخذ المجابهة طابعها الشمولي على رغم النواقص والثغرات التي تعاني منها الاتجاهات الإسلامية الناشطة في مختلف الميادين.

وفي نظرة سريعة إلى طبيعة المعارضة السياسية في البلدان الإسلامية نرى أنها تنقسم إلى تيارين: الأول اقلوي حديث يمثل نفسه في الأحزاب والمنظمات العلمانية التي نمت أساسا على أرضية النفوذ الغربي. الثاني أكثري «تقليدي» يمثل نفسه في انبعاث الاتجاهات الدينية الممانعة التي نمت وانفجرت على نهج العداء للنفوذ الأجنبي.

التيار الأول تقوم معارضته على بعض التعارضات الجزئية مع الغرب ولكنه لا يستنفر في مواجهته كل القوى الداخلية الكامنة في الكتل الشعبية بسبب خوفه من انفلات عقال هذه الفئات الأكثرية وطغيانها على الفئات الأخرى, ومن هنا يمكن فهم الحذر الذي يتعامل به هذا التيار مع الحركات الإسلامية القائمة في مناطق مختلفة. فالحذر هذا يعكس حالا من الخوف الضمني الذي يرى من جهة في الإسلام القوة الصدامية الأساسية ويرى فيه من جهة أخرى قوة متماسكة تشد إليها مختلف الفئات والأكثرية الساحقة من الناس التي تعطيه الصدارة في الواجهة السياسية.

أما التيار الثاني فتقوم معارضته على تناقضات جذرية في مواجهة قوة الغرب. لذلك يلاحظ أن هذا التيار غير مساوم أو غير قابل للأخذ والرد وغير مستعد للتخلي عن نزعته المبدئية حتى في حالات المعارك الحامية. وتأتي قوة هذا التيار ليس فقط من عمقه التاريخي واتساع رقعته الشعبية واعتماده على التماسك الديني، بل بسبب دقة علاقته بمشاعر الناس وعفويتها اللامحدودة. وقدرة هذا التيار على استنفار مجموع هذه القوى والمعطيات والإمكانات تجعل منه دون شك الخطر الفعلي الأكبر على مصالح دول الغرب وسطوتها السياسية والاقتصادية والثقافية.

سبب هذا الاختلاف في النهجين (العلماني والإسلامي) يعود إلى اختلاف الموقعين. فالأكثرية تستند إلى قاعدة اجتماعية تسمح لها بنسج أوسع العلاقات الديموغرافية بينما الأقلية لا تستند إلى قاعدة اجتماعية واسعة ما يجعلها تعوض النقص التاريخي بالإكثار من الكلام الايديولوجي وبالتالي استبدال الواقع بالنظرية لتغطية العجز السياسي. ونتيجة هذا العجز النظري والنقص التاريخي كان من الطبيعي أن تستنفر الأحزاب الحديثة نفسها لمواجهة ما تسميه «قوى الظلام» بذريعة أنها تريد العودة بعقارب الساعة إلى الوراء.

العدد 2135 - الخميس 10 يوليو 2008م الموافق 06 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً