نعم لم تعد الديمقراطية مجرد ورقة بيضاء تلوح بها النظم الحاكمة، لشعوبها من باب الخديعة، مثلما لم يعد الإصلاح الديمقراطي في البلاد غير الديمقراطية، شأناً محلياً داخلياً فقط، ولكنه أصبح كما يدرك الجميع الآن شأناً خارجياً يستدعي التدخل الأجنبي للأسف، وأمامنا نماذج لا تحصى ولا تعد.
ومن دون مقارنة، فإن نموذج التدخلات والضغوط الأميركية والأوروبية على رئيس زيمبابوي روبرت موجابي بهدف إجباره على الخضوع لقواعد الديمقراطية وأصول الانتخابات النزيهة، وصولاً للتهديد بفرض عقوبات مغلظة، يقابله نموذج الضغوط العلنية بالضمنية التي تمارسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على مصر، لدفعها نحو إجراء إصلاحات ديمقراطية واسعة وحقيقية.
وأظن أن التيار السائد في السياسة الدولية الآن، بقيادة الدول الغربية «أو العالم الحر»، يعطي لنفسه الحق بكل حرية للتدخل في أدق الشئون الداخلية لأية دولة أخرى، يرى أنها لا تمضي قدماً في الإصلاح، ديمقراطياً كان أو اقتصادياً، بل إن قانون «التدخل الإنساني» الذي يسمح للدول الكبرى تحت الشرعية الدولية، أن تتدخل في شئون دول أخرى تتهم بالفساد والديكتاتورية والتعصب واضطهاد بعض أبنائها، أصبح نافذاً مند مدة، وهو يستغل وفق هذه الدول الكبرى ومصالحها في الأساس!
وبقدر ما كنا ومازلنا وسنظل ضد التدخل الأجنبي في شئون بلادنا باسم دعم الإصلاح أو تشجيع الديمقراطية، باعتبار ذلك مسئوليتنا قبل أن يكون مسئولية الآخرين، فإننا لا ننكر أن فشلنا في إجراء هذا الإصلاح الديمقراطي.
وعداؤنا للاستبداد ومقاومتنا وحملتنا ضده، ليس فقط لضربه وتصفية أنصاره والمستفدين منه ومستغليه، بعد أن امتصوا رحيق الحياة، رحيق الحرية من مجتمعاتنا، ولكن أيضاً لصد التدخل الأجنبي الهاجم وإيقاف تدخلات الاستعمار الجديد، بحجة فرض الديمقراطية.
ولذلك قلنا ومازلنا نقول على مدى سنوات، لابد من إصلاح أحوالنا وإطلاق حرياتنا بيدنا لا بيد غيرنا... وإلا أصبحنا للأسف مثل تلك الدول التي تدخلت فيها القوى الأميركية الأوروبية لفرض الإصلاح الديمقراطي الذي تريده، عبر الثورات الملونة في دول أوروبا الشرقية بداية، ثم انطلاقاً لدول أخرى بامتداد خريطة العالم، من بورما والتبت شرقاً، إلى كينيا وزيمبابوي غرباً... انظر وتأمل!
زيمبابوي والرئيس روبرت موجابي يجسدان النموذج الذي نتحدث عنه... ونحذر منه، على رغم أن موجابي رمز من رموز التحرر الوطني وقادة الاستقلال، فإن تشبثه بالسلطة وانفراده بها عبر ثلاثة عقود، وصدامه التاريخي مع المستوطنين الأوروبيين ونزع ملكيتهم للأراضي الزراعية، قد أسس جداراً من عدم الرضا بينه وبين شعبه بسبب الاستبداد والفساد داخل مؤسساته وحزبه ورجاله من ناحية، وبينه وبين دول الغرب «الاستعمار القديم» من ناحية ثانية.
وعلى رغم أننا لا نملك أدلة على أن المعارضة في زيمبابوي التي يقودها «شانجراى»، قد تلقت دعماً مباشراً أو غير مباشر من الغرب، وهو أمر محتمل طبعاً، فإن فكرة تصدي زعيم معارض قوى، لمستبد احتكر الحكم لـ 28 عاماً، وخاض ضده انتخابات الرئاسة الأخيرة التي وصمت بالتزوير، فكرة لاقت استحساناً في الغرب وجاذبية لدى الشعوب المقهورة... فلم لا يمكن تغيير النظم وتبديل الحكام من خلال معارضة شعبية وحركة سياسية منظمة ومعارضين شجعان!
وأظن أن هذه هي الفكرة الجذابة الآن في ظل موجة الديمقراطية العالمية، فبعدما تراجعت إلى حد بعيد الانقلابات العسكرية وسيلة للتغير القسري، أصبح الكفاح من أجل التغيير السلمي للنظم عبر الانتخابات النظيفة، ومن خلال تداول السلطة، بين القوى السياسية الاجتماعية، هو الأسلوب الأفضل للتغير.
لقد جاء اختراع تداول السلطة ديمقراطياً وتبادل المناصب والمواقع، «عكس الاستمرار والتأييد والتوريث»، كآلية من آليات الديمقراطية، حماية للمجتمعات وصيانة للحرية وتشجيعاً للمشاركة والمساءلة والمحاسبة، مثلما جاء تعبيراً عن فلسفة مقاومة الاستبداد المنفرد بالسلطة باسم الاستمرار والاستقرار، وكذلك جاء لمكافحة الفساد المتحالف مع الاستبداد، والذي ينمو من حوله كالفطر السام!
وأظن أننا أكثر المجتمعات حاجة، ورغبة، في دراسة ذلك وتطبيقه بطريقة عملية وأمنية، بعيداً عن مظاهر التمثيل والتسطيح والتزييف، وبعيدا أيضاً عن تزوير الانتخابات وسلق القوانين بليل وبأسلوب وطرق تعادي الحريات، التي يجيدها ترزية القوانين، نفاقاً لرؤسائهم وأصحاب نعمتهم، فإذا بنا أمام ترسانة من القوانين والتشريعات المقيدة للحرية، المجهضة لأي أمل في إصلاح ديمقراطي قريب، المحبطة لآفاق إصلاح اقتصادي اجتماعي حقيقي، يعيد ميزان العدالة الاجتماعية الغائبة، وانظر آثار سيل التشريعات الغربية، من الطوارئ إلى الضرائب والاحتكار، لتدرك من يحكم ويتحكم!
وإذا كنا قد بدأنا بالقول إن الديمقراطية لم تعد خدعة، ولم تعد كذلك شأناً داخلياً صرفاً، فإننا نؤكد من جديد أن الأمر يحتاج إلى شجاعة عالية ورؤية شاملة، تعيد النظر بدقة ومن دون حرج في فلسفة الحكم في بلادنا، وفي مصادر شرعيتها، سواء كانت مصادر توريث أو مصادر انقلاب، أو مصادر أمر واقع وصدفة تاريخية، أو مصادر ثروة ومال... فكل ذلك ليس إلا من سمات المجتمعات المتخلفة المستسلمة لتحالف الفساد والاستبداد. واحتكار السلطة والثروة، أما في ظل النظم الديمقراطية فإن مصدر شرعية الحكم والحاكم هي إدارة الشعب.
وحين ندقق النظر في أحوال مجتمعاتنا، فإننا نجد أن هذه «الشرعية غير الشرعية المعادية للديمقراطية» قد خلفت لنا خمسة أنواع من التحالفات غير المقدسة، تحكم فينا وتتحكم في حاضرنا ومستقبلنا، ونعني تحالف السلطة والثروة، وتحالف الفساد والاستبداد، وتحالف الدين والسياسة، تحالف العسكر والسلطة المدنية البيروقراطية، وتحالف السلطان والمثقف المنافق الانتهازي.
ولكم أن تطبقوا هذا كله على أرض الواقع، لتجدوا أن هذه التحالفات قائمة بشكل من الأشكال في بلادنا، وهي المستأسدة دفاعاً عن الأوضاع الرتيبة المتجمدة، في وجه أية دعوة للإصلاح أو أية محاولة لإطلاق الحريات العامة والخاصة، التي نصت عليها الشرائع السماوية، مثلما جاءت بها المواثيق الدولية.
للأسف كوابح الديمقراطية كامنة في معظمها داخلنا، من روح الاستبداد إلى شهوة الفساد. ومن عتامة الجهل إلى قمر الفقر، بينما حكوماتنا الرشيدة تتحدث عن التقدم والنمو والإصلاح والانتخابات والحرية، من دون أن تكلف نفسها مشقة الفوضى في باطن المجتمع وشوارعه الخلفية..
عوداً على بدء... الديمقراطية لم تعد خديعة يلعب بها الحكام لإلهاء الشعوب، ولم تعد شأناً داخلياً فقط، ويبقى درس زيمبابوي وروبرت موجابى ماثلاً في أذهان من يتذكر فيتعظ!
خير الكلام:
يقول أحمد شوقي:
لا يهدم الدهر ركناً شاد عدلهم
وحائط البغي إن تلمسه ينهدمِ
إقرأ أيضا لـ "سيد عبدالله مجيد العالي"العدد 2133 - الثلثاء 08 يوليو 2008م الموافق 05 رجب 1429هـ