أتذكر جيدا كأنه حديث البارحة. ذاكرتي تأخذني هذه المرة إلى محطة سياسية مهمة إلى العام 2002 عندما قاطعت جمعية الوفاق الوطني الإسلامية الحياة النيابية في الدورة الأولى، وظلت تراقب التجربة من الخارج وتواصل عملها السياسي. كانت «الوفاق» حينها ملامة من بعض قواعدها الشعبية، وكان اللوم يزداد وتيرته كلما اتجهت أعين الشارع إلى المجلس وتابع الملفات المطروحة تحت قبته، وكلما ناقش المجلس النيابي ملفا حساسا يهم الشارع.
كان الشارع يضع يده على قلبه خوفا وقلقا، إذ إن كل ما يجري على مسرح المجلس له انعكاساته على الشارع وحياتهم، ففي كل مرة يأخذ فيه النواب قرارا خطيرا أو يمرروا قانونا بخلاف قناعات الشارع المعارض يتعارض مع المصلحة العامة ويطابق مصالح الحكومة التي تملك المجلس النيابي وتحكمه؛ نظرا إلى عدة أسباب لعل أبرزها خلو المجلس من وجود التمثيل المعارض داخله.
كانت تعليقات الشارع تتجه، بكل قسوة وبلا مقدمات إلى لوم «الوفاق»؛ لكونها قاطعت المجلس، على رغم قناعة الشارع آنذاك هو الآخر تتجه وقتها إلى المقاطعة وترى صحة الموقف، وعدم جدوى المشاركة نتيجة القيود التي يكبل بها المجلس، ولكون المجلس أصلا بآلياته المختلفة معلولا ولكن الشارع كانت له رؤية آنية خاصة، مصوبا سهامه إلى وقت الأزمات والشدائد فقد تنبه حديثا إلى أن مشاركة «الوفاق» تعد أهون الضررين، ووجود «الوفاق» في المجلس على الأقل يمنع مصيبة من المصائب من الحدوث، ويمثل صمام أمان لتوضيح وجهة نظر الآخر.
الآن وبعد المشاركة وبعد الدخول في التجربة، وبعد أن أصبح الأمر واقعا وليس افتراضات مبنية على فرضيات وقناعات نجد أن الكتلة كلما اجتهدت وتقدمت بمشروع أو قانون أو مقترح أو لجنة تحقيق أو استجواب يعبر عن الشارع المعارض، وكلما أحدثت حراكا سياسيا جادا، وتمت مواجهتها بالاصطفافات ومحاصرتها من قبل الكتل الأخرى، وجه إليها سيل من الانتقادات والتعليقات، ووصفت بأنها غير واقعية؛ فقط لكونها لا تمثل الغالبية وبالتالي سوء التخطيط وعليها أن توفر على نفسها التقدم بمشروعات ومقترحات من هذا النوع حتى لا تحرج نفسها وتتسبب في حرق نفسها.
بل إن البعض لم يفته أن يغلو غلوا كبيرا، فكلما برزت على السطح قضية من القضايا واستشهد بالأحداث الأخيرة التي نتجت وتسببت في إحداث مشكلات أمنية تزامنت مع ذكرى أسبوع الشهيد وذكرى احتفالات البلاد بالعيد الوطني، والذكرى السنوية لوفاة قائد الانتفاضة الشيخ عبدالأمير الجمري رحمه الله، وما صاحبه من انتهاكات واعتقالات في صفوف الشباب، بدأت تنطلق بقوة أصوات تنادي بضرورة انسحاب «الوفاق» من المجلس النيابي، بل لم يتوقف هذا النداء بانتهاء الحدث بل ظل مستمرا ويتجدد مع كل إسقاط لقانون أو لجنة تقصي حقائق أو استجواب تتقدم به «الوفاق»، فقد أدرك الشارع أن لا جدوى من مشاركة «الوفاق» ووجودها داخل المجلس يمثل خطأ وعليها أن تتدارك ذلك من خلال انسحابها السريع.
ألم أقل إنها مسبيّة على كل حال؟ فضغط الشارع على «الوفاق» بالانسحاب تكرر وسيستمر ولكن «الوفاق» سيدة الموقف وبيدها وحدها قرار الانسحاب أو الاستمرار، وعلى الشارع أن يعي بدوره أن اتخاذ قرار الانسحاب قرار خطير وكل شيء في حينه وكل الخيارات تحتاج إلى دراسة معمقة. يجب علينا ألا نكون انفعاليين أكثر من الأطفال الصغار الذين لا يترددون ولا يستحون من استخدام أرجلهم وأيديهم وهم ملقون على الأرض ويطالبون بحاجاتهم أن تنفذ، أو أنهم يهددون على الفور بالرجوع إلى البيت إذا لم تلبَّ طلباتهم، مع الفارق الكبير طبعا. لا نريد لكتلة «الوفاق» ان تكون كتلة الأطفال الانفعاليين الذين يقررون فجأة دون إدراك عواقب الأمور وعلينا أن نقف ونتفاكر ماذا بعد الانسحاب؟ بعدها يأتي القرار لا العكس.
رضا الناس غاية لا تدرك وعسيرة جدا وعلى «الوفاق» أن تعمل وفق قناعاتها السياسية ووفق منهجيتها في العمل السياسي ورؤاها فقد جربت المقاطعة وظلت على المدرجات لمدة أربع سنوات تتفرج وتراقب الأداء الهزيل وتشاهد اللعبة السياسية بلاعبين دخلاء وطارئين على الساحة السياسية واليوم تدفع الضريبة، ومن حقها اليوم أن تكون اللاعب الأول بكل ما تملكه من تجارب ومن قدرة على إدارة الملفات وعلى الشارع أن يكون من الصابرين، فإذا لم يكتب لها النجاح فقد عملت ما في وسعها والتوفيق بيد الله تعالى. المهم أن نيتها تطوير التجربة وتحسين الوضع السياسي ولا أحد يتنكر للدور التي تلعبه «الوفاق» في ذلك ومدى نجاحه. لابد من جديد أن تعيد الكرّة ونستفيد من تجربتها السابقة.
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2127 - الأربعاء 02 يوليو 2008م الموافق 27 جمادى الآخرة 1429هـ