مَنْ ذلك الذي استطاع أن يجعل من التنمية المدنية في البحرين مرتبطة بالتنمية الاقتصادية فقط؟ مَنْ استطاع تمرير هذه الأكذوبة - المُكلِفة - على مجمل مداولاتنا السياسية في حلقات النقاش الوطني؟ قد يبدو نجاح أية تجربة إصلاحية في التنمية الاقتصادية مظهرا ذا دلالات عدة على أن التجربة تسير في الطريق الصحيح، ولكن لابد ألا يكون مثل هذا الحكم كُليانيا مُطلقا، وخصوصا وأن هذه التنمية كانت ولاتزال حكرا لطبقة محدودة تمسك بزمام البلد كله.
يصنف الباحث السياسي الأميركي زيغمونت بومان هذا النوع من الاعتقاد بالانخراط الأعمى في «العولمة السالبة»، التي أفلحت كما يعتقد في نصب المعيار «الاقتصادي» (أي الربحية) معيارا أوحد في ميزان المعنى والفهم للدولة ونهوض الدولة وتنمية الدولة ورقيها. وهنا تحديدا أصبح «الاقتصادي» مرادفا لـ «الموضوعي»، فـ «قلص هذا المعيار مدة صلاحية المعارف أو متوسط حظها من العمر». النتيجة الأكثر بشاعة من هذه العولمة السالبة أنها صيّرت من خطاب الدخول في التنمية الاقتصادية/ الحرص على الاستثمار وتنميته/ تنمية الاستثمارات الأجنبية داخل البحرين خطابا متغولا يمتلك أولوية خاصة على أي خطاب آخر، لا تقلّ وجاهته وصدقيته عن التنمية الاقتصادية، فأية تنمية وطنية تلك التي تُنمّي الاقتصاد ولا تقوم على التوزيع العادل لـ «الثروة» و «الفرص»، ولا تلتزم بضمان حقوق المواطن التي كفلتها له المعاهدات والمواثيق الدولية كافة فضلا عن دستور بلده.
لقد أصبحت إطلاقة «السوق هو الشعب» عقيدة آمنة جديدة لحكوماتنا، يبدو الجميع منساقا خلف عقيدة السوق وقوانينه. والسوق - بطبيعته - لا يحب الإنسان، بل هو دائما ما يعتقد أن خلف كل تدخل إنساني في عقيدة السوق «شر» مقيم سيأتي، وهذا الإنسان الشرير الذي هو عدو السوق لابدّ أن يتم اقتصاده، وتحجيمه، والتقليل من مطالبه، والحد من رفاهيته «المفرطة»!
المواطن «الشرير» في الحكومة التي لا يشغلها سوى تنمية استثماراتها المالية لا الإنسانية، ليس له اقتصاد، لذلك دأبت عبارات المحللين الاقتصاديين على اعتماد مصطلح «اقتصاد السوق»، وبما أن كلمة السوق كلمة «اقتصادية» أيضا فكأنما كانت الإشارة ذات مغزى مضمر وهو «اقتصاد الاقتصاد». وعندما أهملت مقالات المحللين «اقتصاد الناس» وجدت أنه من الضروري أن أعيدها في سياق طبيعي وغير مستهجن، وهو أن تأتي عبارة «اقتصاد الناس» بمعنى اختزال الناس، ولجم خيالاتهم وصولا لوجودهم على الأرض.
سيوفر الاقتصاد الجديد للمواطن «الشرير» فرص العمل، وسبل الانتعاش الاقتصادي المستمر! ولكن هذا الانتعاش محصور ومقنن بتلك الفئة المستثناة من الناس الذين تم فعل «الاقتصاد/ الاختزال» لأمانيهم وطموحاتهم. هنا فقط أستطيع أن أفهم مجمل الوعود بالانتعاش الاقتصادي بأنها لا تزيد في أعلى التقديرات عن كذبة سوق يتداولها التجار الجشعون لا أكثر.
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 2124 - الأحد 29 يونيو 2008م الموافق 24 جمادى الآخرة 1429هـ