أحيانا يجد الشخص نفسه مجبرا على عقد المقارنات، ليس من باب العلو بطرف على حساب إسقاط الطرف الآخر، ولكن من باب التمني المدفوع في أوقات كثيرة بـ«الحسرة»، إذا ما كانت الأمور التي تساعد على العلو بالطرف الساقط متوافرة - وبزيادة - لكنه لا يستثمرها إلا في ما يزيده انحدارا!
هذه المقارنة وجدتني مدفوعة إليها دفعا مصحوبا بالألم، عندما سنحت لي الفرصة حديثا لزيارة تايلند... التي أجد أن كثيرا من الناس ظلمتها عندما صورتها بصورة بلد للدعارة والفسق ليس إلا، والقهر عندما يتمادون في اتهام كل زائر لتايلند بالخارج عن الدين، وخصوصا إن ذهب الرجل لوحده دون عائلته!
لست بمجال للدفاع عن تايلند، فالتهمة إياها قد تكون صحيحة ولكن لا يجوز تعميمها على الكل، ففي تايلند ما ترتاح له النفس أكثر بكثير من تلك النقطة السوداء التي وصمت بها ظلما وزورا... وديرتنا ليست براء من التهمة.
تايلند تعتبر من البلدان الفقيرة، إذ لم ينعم الله عليها بنعمة النفط، ومتوسط دخل الفرد فيها قد يعادل 120 دينارا على الأرجح، ولكنه جلّ شأنه عوض عليها بطبيعة ساحرة أعجز عن وصفها، يكفي أن أقول إني كنت أبحث عن حبة رمل صحراوية كالتي في ديارنا فلم أجد لها مكانا بين المساحات الخضراء والأشجار الغنية بما لذ من الفواكه والخضار تزاحم بيوتها الفقيرة والغنية على حد سواء، إلا على سواحلها، إذ الرمال الناعمة تشاطر الصخور وبعض الأشجار أيضا في منظر تمتزج فيه الألوان مشكلة لوحة فنية رائعة (بلا مبالغة).
في نظر التايلنديين، نحن تجار نملك من الأموال ما لا نحسب له حسابا، ويكذبونك إن عكست لهم الصورة، فقط لأننا قادمون من بلد نفطي، مؤكدا (في نظرهم) أن عوائده تصب في جيوبنا ذهبا! وعلى رغم أنهم فقراء من ناحية المدخول المادي فإنهم مفعمون بروح العمل ولو في أبسط المهن، مشكلين ببعض حرفهم البدائية أماكن جذب سياحية رائعة الجمال وبلا كلفة عالية!
المجمعات التجارية تجدها شامخة بطوابق عدة تتناسب بضائعها جميع المستويات والأذواق، والملفت أنك تجدها متناثرة في كل حدب وصوب فلا توجد رقعة مخصصة للأغنياء فقط وأخرى للفقراء، الكل يستفيد من خدمات واحدة، ومنزل الغني ملاصق لمنزل الفقير، في تناغم عجيب يصعب أن تجد له مثيلا في البحرين أو الدول العربية عموما!
كنا نقول عن جو البحرين إنك تعيش كل الفصول في يوم واحد، ولكن في تايلند الشاهد أكبر، فالشمس ساطعة تسلخك من حرارتها وفجأة يأتيك المطر غاضبا وكأنه مرهم لحرقة الشمس... وعلى ذلك، فلا المطر ولا حرارة الجو ولا أي عارض طبيعي يوقف الحياة، إذ لا انقطاع للكهرباء صادفنا، ولم يدفعنا المطر إلى رفع ملابسنا إلى الركبة كي نتجاوز نقع الماء التي تظل عندنا شهورا إلى أن تتحول إلى برك آسنة موبوءة، والمجاري تطفح إلى أن تقتل الحياة البيئية والبحرية وتهدد حياة الناس!
أين موقع الحسرة إذا؟ وما وجه المقارنة بين البحرين وتايلند؟! أننا محسوبون بلدا غنيا بخيراته، مساحته لا تعادل مساحة جزيرة واحدة من جزر تايلند، يقال إن الحكومة تسعى إلى جعله بلدا سياحيا، ولكنها فتحت فيه المجال للاستثمار فقط الذي قضى على كل رقعة خضراء وكل ساحل في البلد من دون أن يستفيد المواطن (على مختلف مستويات دخله) شيئا يذكر لا على المستوى المادي ولا على المستوى المعنوي والنفسي، في حين أصبحت تايلند مقصدا للسياح وبلدا مصدرا للبضائع (الرخيصة القوية) كما يقولون «وزيتهم في مكبتهم» وليس للخارج!
هناك البلد ملك لكل مواطن، راض بما قسمه الله له، لا يقبل على رغم فقره بأن يهجر أرضه، وهو يقدس حكومته ويدعو لها بالخير لأنها أكرمته... لا ساحل يحجز أو يردم ولا أرض تسوّر من دون وجه حق، ولا مناطق تقسم بحسب المذهب والغنى والفقر والمحسوبية، فتوزع الخدمات كلها على مناطق، وتظل مناطق أخرى تفتقر حتى إلى الشوارع المبلطة، بل النظيفة، ما يدفعني إلى السؤال: بأي وصف سيوصف التايلنديون بلدنا وهم الذين يستنكرون حتى رمي ورقة «كلينكس» في شوارعهم، حين يرون شعبنا مسحوقا بالفقر... وأشياء أخرى؟
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 2119 - الثلثاء 24 يونيو 2008م الموافق 19 جمادى الآخرة 1429هـ