العدد 2118 - الإثنين 23 يونيو 2008م الموافق 18 جمادى الآخرة 1429هـ

ساركوزي يعود للعرب من بوابة المفاعلات النووية

رجل مثل ساركوزي يتمتع بديناميكية عالية لا يتوقف عن الدوران في المنطقة العربية وبؤر النزاع لتوسيع دائرة نفوذ فرنسا وتقوية مصالحها الاستراتيجية يقول لشركائه الأميركيين إنه من غير المعقول أن تكون أوروبا غنية وذات نفوذ سياسي ويحسب لها حساب في الوقت الذي لا تكون قادرة على ضمان حماية نفسها!

دعوة ساركوزي هذه أوجدت جدلا لدى المراقبين حول الدور الفرنسي في المنطقة العربية وسياستها الخارجية وطرحت أسئلة من نوع هل تملك فرنسا القدرة على أن تلعب بالساحة الخليجية والعربية بعيدا عن التفاهم مع الأميركيين أم أنها فقدت القوة والمكانة الاستقلالية التي كانت تتمتع فيها إلى حد ما في عهود ديغول وتوابعه.

موضوع «الاستقلالية» بالمفهوم الديغولي لم يعد القاعدة التي تأخذ بها فرنسا بسياستها الخارجية فظروف الستينيات والسبعينيات اختلفت في مواقع الصراع والفرنسيون اليوم باتوا «شركاء» للتحالف الأطلسي وإن بدرجة أقل من الإنجليز والألمان لكنهم في مصاف اللاعبين الثانويين الذين يناورون داخل الملعب الأميركي وإن كانوا يتمتعون بقدر من الحرية في المناكفة باعتبارهم مازالوا خارج العضوية الكاملة بالحلف الأطلسي العسكري، فقدرتهم على المناورة تبقى أوسع من قدرة الإنجليز أو الألمان مثلا وحصولهم على مراكز نفوذ أو اختراقها يبدو أكثر قابلية للتحقيق.

الحدث الأبرز في عهد ساركوزي هو إدخال العالم العربي في العصر النووي الفرنسي من خلال الترويج لمفاعلات نووية تعزز التعاون الاقتصادي والسياسي وتجعلها قريبة من مسرح الأحداث في الشرق الأوسط.

خبراء السياسة الدولية يشيرون إلى أن التكنولوجيا النووية الفرنسية تستطيع أن تكون منافسا قويا في السوق العربية والعالم بسبب توفر نسبة عالية من الأمان في المفاعلات التي تنتجها وتديرها أولا وبسبب حاجة البلدان العربية لتوفير الكهرباء وتحلية مياه البحر واستخدامها في مجالات علمية وطبية أخرى ثانيا.

تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية يكشف ميل العالم لاستخدام المحطات النووية بإنتاج الكهرباء، ويؤشر وجود 11 دولة تعمل حاليا على بناء 27 محطة نووية لإنتاج نحو 21 ألف ميغاوات من الكهرباء أما فرنسا فلديها 59 محطة تنتج 80 في المئة من الكهرباء التي تحتاجها.

فرنسا لا تخفي أهدافها الاقتصادية من وراء ذلك حيث تشكل وحدها ثلث إنتاج العالم من الطاقة النووية ولديها مشاريع ستحقق لها مداخيل تصل إلى نحو 25 مليار يورو بعد أربع سنوات تقريبا تتوزع على 40 دولة في العالم وبعقود تتراوح ما من 18 مليون يورو كما هو مع سلطنة عمان و6 مليارات كما في حالة الصين حسبما يذكر الخبير الاستراتيجي أحمد يوسف في تقرير مهم نشر بالأهرام أواخر العام 2007.

والجانب المهم والمثير في هذا التقرير أن فرنسا سوف تبيع للعرب غالبا الجيل الأول والثاني من مفاعلاتها دون أن تسمح لأي طرف بامتلاك تقنية الجيل الثالث والمعروف بمفاعل «EPR» الذي ستبني للصين أربع مفاعلات منه ولكن على طريقة «تسليم الشقة دون مفتاح» أي أن تحتفظ بالتكنولوجيا الخاصة بهذا النوع من المفاعل حتى لا تفقد قدرتها التنافسية والتقنية.

خلال عهد ساركوزي وقعت فرنسا نحو عشر اتفاقيات مع دول عربية وخليجية لبناء مفاعلات نووية للأغراض السلمية جنت منها مكاسب سياسية واقتصادية بدأتها مع ليبيا والتي عرضتها لانتقادات حادة في أوروبا نظرا لتاريخ هذا البلد «المشاكس» بسعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل وهو ما أجبرت على التخلص منه بمقايضة كبرى مع أميركا وانتهاء بدول المغرب العربي إضافة لعدد من بلدان مجلس التعاون الخليجي.

في كل الأحوال فتحت فرنسا الباب على مصراعيه في موضوع تزويد العرب بمفاعلات نووية سواء لجهة الشكوك بإمكان استخدامه للأغراض غير السلمية إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك وفي الوقت نفسه ضمنت التخلص من مفاعلاتها من الجيلين الأول والثاني والأهم من ذلك أن هذه المشاريع لم تكن بعيدة عن المباركة الأميركية ولم تسجل واشنطن وصحافتها اعتراضا على ذلك كما ينظر إليها بعض المراقبين.

مفاعلات وشقق سكنية

هناك جوانب توقف عندها رئيس الهيئة العربية للطاقة الذرية محمود نصرالدين وهي أن فرنسا ستبيع العرب هذه المفاعلات كمن تباع شقة للسكن أو سيارة للاستهلاك مستبعدة خلق وتدريب كوادر وطنية تشارك وتدير بنفسها هذه المحطات.

فرنسا ساركوزي تعمل على أن تكون فرنسا أكثر أهمية في البيئة الأمنية والاقتصادية وبما يعطيها عناصر قوة إضافية افتقدتها وتراجعت عنها. لكنها عناصر تكتسبها بمعدلات بطيئة تتوافق وأدوارها السياسية ولا تشكل «تهديدا» أو «مزاحمة» للنفوذ الأميركي، فعندما تدخل على خط أزمة إقليمية كما فعلت في لبنان مثلا لم تستطع أن تبعد الدور الأميركي أو تكون بديلا عنه. ما تفعله أشبه بإعادة تأهيل لدورها ولتثبيت صورتها إلى حد ما بكونها ليست تابعا لأميركا بقدر ما لديها أجندتها الإقليمية والدولية، ودولة الإمارات واحدة من التي تقدمت فيها فرنسا خطوات في مجال «اختراق» النفوذ الأميركي هناك، بأن جمعت بين ثقافة اللوفر ودراسة السوربون وقاعدة عسكرية في مياه إمارة أبوظبي وإن كانت أيضا هذه المساحة من المصالح والوجود لا تزعج ولا تشكل «خطرا» على الوجود والقوات والمصالح الأميركية المنتشرة بالمنطقة.

علاقة فرنسا بالعالم العربي أشبه بخط بياني غير ثابت يتأرجح سريعا بين الصعود إلى القمة أو النزول منها العام 1956 شكلت رأس حربة للعدوان الثلاثي على مصر في عهد غي مولييه وفي حرب 1967 وبعد تدمير أسطول الطيران اللبناني في مطار بيروت العام 1968 وقف ديغول ليعلن وقف تصدير السلاح إلى «إسرائيل» ويستقل بموقفه عن أميركا التي إزاحته بدورها عن أن يكون لاعبا أساسيا بالمنطقة.

فرنسا التي كانت أول دولة أوروبية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية وتستقبل ياسر عرفات كانت الدولة التي أدخلت التقنية النووية إلى «إسرائيل» وساعدت ببناء مفاعل «ديمونا» عندما زارها على 1942 رئيس لجنة الطاقة الفرنسية وسمح للإسرائيليين بالتدريب في مفاعلاتها بعد التوقيع على اتفاق تعاون نووي بين الطرفين سنة 1953 وهي التي وافقت على إمداد تل أبيب بمفاعل يعمل بالماء التثقيل، وفرنسا هي من زود صدام حسين بمفاعل «تموز» بالسبعينيات وانقضت عليه «إسرائيل» العام 1981 بغارة جوية دمرته على الأرض. وعملوا بعد انقلاب البعث على الدخول إلى العراق عبر صفقة طائرات ميراج في عهد عبدالرحمن عارف الذي تعرض لانقلاب مضاد وتسقط المحاولة الفرنسية التي لم تستطع أن تنال حصتها في هذا البلد المهم الذي خرج منه يوما علي صالح السعدي ليقول إننا جئنا إلى السلطة بقطار أميركي... وليس فرنسيا.

العدد 2118 - الإثنين 23 يونيو 2008م الموافق 18 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً