قيل «ان الصوت الانتخابي سيف من ورق، لكنه سيف جارح، سيف يسبب خوفا للناس من الانتخابات في المجتمعات التي لا تشكل معشرا Community واحدا فتعمل لها ألف حساب»!.
هل ينطبق هذا القول على ما فعله وأنتجه الصوت الانتخابي البحريني؟ إجمالا، تبدو الإجابة «نعم» هي الأكثر واقعية، لاسيما حينما نطلع على تفاصيل قضية التوظيف في المجلس النيابي مؤخرا، لماذا؟
لأنه وحسب إحصائية نشرت، هناك 168 من أصل 230 موظفا وموظفة في المجلس هم من المنتمين إلى كتلتي جمعيتي الأصالة الإسلامية «جماعة السلف» والمنبر الوطني الإسلامي «اخوان مسلمين»، إذ يمثلون نسبة 73 في المئة من عدد إجمالي الموظفين (الوسط، العدد 2106، 12 يونيو/ حزيران 2008)! يضاف إلى ذلك، ما نشب من خلاف لفتت إليه بعض الصحف المحلية بين الأمين العام للمجلس نوار المحمود وبين رئيس مكتب رئيس المجلس يوسف الرويعي، بسبب التجاوزات الإدارية المتعلقة بقرارات التوظيف والترقيات والتدخل في التعيينات للمناصب العليا بالمجلس من دون علم الأمين العام، - أي تجاوزه كمسئول -، ما يعنى من وجهة نظر الآخرين، وجود تمييز وإقصاء وتهميش وخدمة للأجندات الفئوية.
قيل أيضا ان هذه الوظائف لا يعلن عنها في الصحافة المحلية ولا يحزنون. البعض وصف هذه الظاهرة «بظاهرة اللوبيات الطائفية»! وعليه، من هنا تكمن خطورة الصوت الانتخابي البحريني الذي أوصل نواب هذه الكتل إلى بيت الشعب!
الضجة... التشنج
لكي لا ننجر بعيدا وراء الضجة التي أثارتها كتلة جمعية الوفاق الإسلامية البرلمانية ربما لدواعي إعلامية وإبراء ذمة، والتي علمنا أن رئيسها الشيخ علي سلمان، وجه خطابا رسميا إلى رئيس المجلس خليفة الظهراني بخصوص التجاوزات أعلاه، مطالبا إياه بإيقاف التوظيف الذي لا يتم على كفاءة وتكافؤ الفرص في المجلس، وإعداد لائحة لشئون العاملين وإعادة تنظيم الهيكل الإداري وفق احتياجات المجلس الوظيفية. هنا، ثمة ما يلزم إلى تفصيل عابر يوضح بعض التأويلات السياسية المتعلقة بهذا النمط من التعارضات السلوكية ذات السمة الطائفية التي أنتجها الصوت الانتخابي البحريني، والتي سيكون منطلقها نابعا من العملية الانتخابية ذاتها التي أوصلت هاتين الكتلتين الانتخابيتين اللتين تستحوذ أحدهما (بالمناسبة ليس مصادفة) على 73 في المئة من الوظائف في مجلس النواب، وتسببت في خلافا بين أمينه العام ومدير مكتب رئيسه، من أبرز هذه التوضيحات ما يلي:
أولا: يستوجب الأمر بداية، الاتفاق على إنه لا أسطورة مثالية في العمل السياسي الذي يتأسس في بعض جوانبه على سقف عال من التوقعات المتمثلة في المناصفة والمحاصصة عند توزيع المكتسبات والمغانم التي تتولد لجهة الوصول إلى مواقع سلطة القرار السياسي، حيث أن هدف المتنافسين الذين يخوضون الانتخابات في الأساس سيبقى هو الهدف نفسه المتمحور حول المشاركة في اتخاذ القرار السياسي والتشريعي والاستئثار به وبسط السيطرة على المجتمع، وبالتالي تحقيق مصالح وأهداف أجندة المتنافسين. إذن، ظاهرة التوظيف بنسبة 73 في المئة في المجلس النيابي لصالح كتلي الأصالة والمنبر الإسلاميتين، تعتبر جزء من آلة المعركة السياسية ذات الطابع الطائفي التي تتم في البرلمان، والنتيجة، لا أسطورة مثالية لما يمكن وصفه بالعدالة المحايدة، ففي الأعراف والنظريات السياسية كما يخبرنا السياسيين «أن الحكم من حق الفائز، وما يحصل عليه من امتيازات في حلبة المنافسة السياسية يتمثل في القوانين التي يسنها والسياسات التي يضعها، وهي في الحقيقة تعبر عن هوية الفريق الفائز ما أمكن... (انظر: الديمقراطية وتحديات الحداثة لإيليا حريق دار الساقي ص 143»). وعليه لنركز على المشهد ونسأل عمن فاز بأغلبية الأصوات في مجلس النواب ومناصبه؟ وهل من غرابة في سلوكه السياسي والفئوي؟ كما هل من عجب في استنفار كتلة الوفاق الإسلامية وسعيها ربما لتحقيق ذات الغرض لأعضائها ومريديها وضمان وظائف ومراكز لهم وزيادة في المرتبات، والحصول على شقق وقروض إسكان وقسائم أراضي وتسهيلات لسفر العلاج والبعثات التعليمية... الخ؟ فالجميع في واقع الأمر، يسعي وإن أنكر ذلك علانية، إلى تحقيق أغراض وأهداف أجندته، وبالتالي تحقيق مصالحه ومصالح ناخبيه ومؤيديه!
ثانيا: يتفق المحللون السياسيون على «ان الوصول إلى مواقع اتخاذ القرار السياسي، عملية تنظيمية جماعية، تتطلب معاونين مجندين وتمويلا ومجهودا ضخما»، فكيف يتم دفع أكلاف هذا المجهود ومن أين؟ يسأل إيليا حريق ويجيب: «ظاهريا يُدفع للمترشح أو حزبه، مريدوه أو من جيوب مختلف الفئات، وقد يشكل هؤلاء أكلاف المعركة الانتخابية، بيد إن الدفع في الحقيقة يتم من موارد الدولة، لا سيما بعد أن يصبح المترشح نائبا ومشاركا في التصرف بهذه الموارد. وهذا ما يجعل من العدالة الشكلية المزعومة عقدة تقلق الكثيرين من مريدي الديمقراطية، فالداعمين للنائب، كانوا من أصحاب المصالح والخبراء الذين يقدمون ما يقدمونه من عون توقعا منهم أن يقوم النائب بقرارات تناسب مصالحهم وأهواءهم، فبعضهم يمول بصورة خفية، كأن يضع المقرات وأجهزة السكرتارية والعاملين الإداريين لديه تحت التصرف، وأحيانا حتى الموظفين العموميين في بعض الشركات والمكاتب تكون تحت تصرف المترشح، يضاف إليها فواتير الأعمال الوهمية أو على الأقل، المُبَالَغ في قيمتها: دورات التأهيل المهني التي تنظمها هيئات قريبة من الحزب، تحمل أعباء فواتير الطباعة ونفقات الدعاية الانتخابية (فواتير ملتوية)... الخ، (انظر: علم الاجتماع السياسي: فيليب برو مؤسسة مجد بيروت ص 392»)، وغالبا ما يحدث ذلك بتفاهم مباشر بينهم، أو ضمنيا. أما الفوائد التي يجنيها أعضاء الجماعة أو مريدو الحزب وأعضاؤه الذين ساندوا ذلك النائب أو كتلته بعد الفوز، بحسب حريق فأنها تأخذ شكل وظائف للمساعدين والمؤيدين ومشروعات تفيد ناخبيهم وقوانين تكرس مصالحهم المادية والمعنوية.
بالمختصر المفيد، إن من يدفع الأكلاف عملا أو ذهبا يضمن مصالحه!. نقطة على السطر، من هنا يمكن تفسير قضية توظيف الـ 73 في المئة، التي كما تؤشر إلى أنها جزء لا يتجزأ من عملية دفع الثمن الذي يتنافى مع الأسطورة المثالية التي في أذهاننا عن الديمقراطية ومفهوم العدالة الشكلية تلك التي يروج لها السياسيون والعقائديون أيا كانوا سواء من كتل الأصالة أو المنبر أو الوفاق أو حتى المستقلين، فهذا السلوك السياسي الطائفي في تغطية كلفة الوصول إلى البرلمان، هو ما يدفع بقية الناس «المتضررين» إلى التشكيك في نزاهة العملية الديمقراطية وتجردها من الخضوع للأغراض الخاصة والفئوية والطائفية.
ثالثا: هناك من المحللين السياسيين من يرى أن تصرف النائب الفائز وكتلته، بتمييز مساعديهم ومريديهم ومؤيديهم، ما يعتبر تصرفا سياسيا عادلا، على اعتبار إن هذا الإجراء يمثل جزءا من عملية تحقيق أفضليات المترشح التي أعلن عنها في الحلبة الانتخابية والسياسية، وبالتالي لا بد أن يتحمل مسئولية من يتبعه ويؤيد سياسته التي يصنعها، ولأن أولئك المساعدين والأعوان قدموا مجهودا من أجل تحقيق فوزه ووصوله للبرلمان، فمن حقهم أن يكافئوا على ما قاموا به فلا أحد يعمل مجانا، إلا ما ندر من أهل الإحسان، إنها نظرية تبادل المنافع - أي دفع مقابل ما حصل عليه المترشح وكتلته - فهو مدين وعليه الإيفاء بدينه، حتى وإن رأى الآخرين، أن تبادل هذه المنافع هي حالة أشبه بالفساد.
على خلاف ذلك هناك من يجد في تبادل هذه المنافع إفساد للأخلاق العامة والأخلاق السياسية ولهيبة القانون نفسه، فمن المشروع أن يكافئ النائب أو كتلته أتباعهم، ولكن بشرط خضوعهم للقانون ولآداب السلوك السياسي.
المناضلون العابرون
رابعا: بصورة عامة، هناك مكافآت مادية وأخرى ذات طابع مادي، والحزب (كما يشير فيليب برو... المرجع السابق ص 396)، يكسب إخلاص مناضليه ويجتذبهم بفضل قدرته على توزيع المزايا، ففي داخل كل منظمة قوية البناء والتسلسل التنظيمي، توجد مناصب جذابة قابلة لإعطاء مزايا لمن يشغلها، وهناك المتفرغون المأجورون المكلفون بمهام تنفيذية وببعض المسئوليات، مضيفا بأن الأحزاب التي تحتل مواقع في السلطة على المستوى الوطني قادرة على تأمين الحصول على فرص عمل والارتقاء فيها، فضلا عن تسهيل منح المخالفات وعقد الصفقات العامة»، أما دومينيك بيلاسي وهيرشمان (نفس المرجع السابق ص 397- 398) فخلصا إلى: «أن الدافع وراء انتساب بعض المتحزبين هو البحث عن فوائد مادية أو مزايا مهنية، وإن قسما من مناضلي الحزب يتطلع إلى ترشيح نفسه ليحظى بترشيح الحزب له للانتخابات النيابية والبلدية، فالالتزام بالحزب وبذل الجهد في سبيله يشكل إذن بطاقة دخول للحياة السياسية المهنية، ولممارسة المسؤوليات العامة، ما يعني إن إخلاص بعض المناضلين وتعلقهم بالحزب، يتناسب مع (التعويضات) التي يمكنهن أن يجدوها فيه بشكل دائم. وهؤلاء هم من يطلق عليهم المناضلون العابرون، الذين يستخدمهم القادة السياسيين لصالحهم، وقد يخرجون أحيانا من الحزب بسبب ضعف قيمة ما يحصلون عليه من (مكافآت) أو بسبب خيبة الأمل لعدم الحصول على المزايا المأمولة مما يشكل لهم إحباطا وارتدادا ونكوصا»!.
من بعد التوضيحات أعلاه، يمكن القول إن ممارسة الكتل النيابية في البرلمان لنشاطها السياسي التنافسي وبطابع فئوي وطائفي والذي أفرز صراعا حول عملية التوظيف في مجلس النواب، لا يمثل أسطورة مثالية في عملها السياسي، كما لا يشكل صدمة بالمقابل تستدعي الاستنفار ورد الفعل المتشنج، بقدر ما إنها تعكس في إحدى صورها مستوى من مستويات استمرار الممارسات الدائرة في سياقات المنافسة التي تمت ومازالت للعملية الانتخابية. والسؤال المرجح طرحه، عما إذا كان هذا السلوك سليما ومبررا؟ وبغض النظر عن الإجابة، ثمة فضيحة لا يمكن التستر عليها كامنة في معارك المغانم، وفي التهرب من الخضوع إلى القانون وتجاوزه، بل وفي عدم الاحتكام إلى آداب السلوك السياسي المتحضر بين المتنافسين!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 2111 - الإثنين 16 يونيو 2008م الموافق 11 جمادى الآخرة 1429هـ