هل يمكنكم الحياد... من ناحيتين لا أستطيع لأسباب جوهرية ترتبط أولا وأخيرا بحب الوطن، والانتماء إلى ناسه وأرضه وترابه... من ناحيتي لا أفهم للجهاد معنى في مواجهة المذابح الدائرة والممتدة عبر حبل الوريد من فلسطين إلى العراق، من جنين والقدس وغزة وبيت لحم ورام الله إلى البصرة والنجف وكربلاء وبغداد، الهاجمة غدا على القاهرة ودمشق وبيروت والرباط والخرطوم...
لا أفهم للحياد معنى أمام الحرب الانجلو - أميركية - الصهيونية لاحتلال أوطان، واستعمار بلدان واستنزاف ثروات وإقامة المذابح للأطفال والنساء والشباب والشيوخ، باسم الحرب النظيفة، أو الحرب العادلة، التي تستخدم فيها الأسلحة الذكية كي تدمر المنشآت ولا تقتل الأبرياء... هكذا قالت آلة الدعاية الأميركية قبل أن تنطلق الصواريخ المدمرة.
في نهاية الأسبوع الثاني للحرب الاستعمارية على العراق، وقعت واقعتان يعرفهما الكافة، أولا: الحرب النظيفة صارت أقذر الحروب وأشدها دموية ودمارا، وأسلحتها الذكية أصيبت بالغباء المتعمد الذي يدمر ويقتل عشوائيا، لتصب جام غضبها الهستيري على الأسواق الشعبية والأحياء السكنية ومرافق الخدمات في المدن العراقية، ربما بحجة البحث أيضا عن أسلحة الدمار الشامل المخبأة فيها...
وثانيا: لم يسقط العراق كليا في أيدي الغزاة خلال ساعات أو أيام كما بشر جنرالات البنتاغون، ولم يخرج الشعب العراقي يطوق أعناق جنود الغزو بباقات الزهور، على غرار ما أبدعت سينما هوليوود في أفلام «تحرير أوروبا من الكابوس الغازي» في الحرب العالمية الثانية...
ها نحن أمام معادلات جديدة تفرضها الحرب العدوانية الاستعمارية، معادلة تعتمد المفاجأة، وخصوصا لقوات الغزو هذه، وتقوم على أن العراقيين يقاومون بشراسة القوات الانجلو - أميركية، بمن في ذلك أعداء النظام العراقي وضحاياه جنبا إلى جنب مع جيشه وميليشياته، لأن الشعب العراقي شعر بالاعتداء على حريته واستقلاله وكرامة وطنه، فنسي الجميع نوع النظام واسم الحاكم وتذكروا «الوطن» الذي يتعرض للغزو الأجنبي والاحتلال الاستعماري والاذلال الهمجي...
وبموازاة تلك المعادلة - المفاجئة - جرت معادلة ثانية تقوم على أن الملايين الذين تظاهروا في الشوارع العربية - خصوصا - ثاروا رفضا لهذا العدوان والاستعمار الهاجم بشراسة على بلد عربي، وليس دفاعا عن نظام حكم أو اسم حاكم، فمن بينهم كثيرون يختلفون مع هذا النظام ويعادون هذا الحاكم... لكن نسي الجميع وأجّلوا كراهية النظام وتمسكوا بكراهية المحتل الأجنبي...
فهل يمكن الحياد بين هؤلاء ومواقفهم الواضحة، وبين أولئك الذين يهللون لغزو العراق ودك البصرة وكربلاء وحصار بغداد، وإقامة حفلات المذابح الجماعية للمدنيين العراقيين كل ساعة وفي كل مكان!!
لا نستطيع الحياد، ولا ادعاء الموضوعية والعقلانية، لكننا نستطيع أن نرصد المؤشرات المهمة الآتية:
أولا: بصرف النظر عن النتيجة النهائية - والمتوقعة - لحرب غير متكافئة بموازين قوى غير متوازنة، فإن أكبر المفاجآت، تمثلت في صمود ومقاومة العراق أمام أقوى ترسانة عسكرية تكنولوجية في التاريخ، وتمثلت في إطالة أمد الحرب حتى الآن، على رغم كل ما روجه الاعلام الأميركي والمتأمرك، عن نزهة الغزو وسرعة الحسم وحرب الصدمة والرعب، والحرب النظيفة فائقة السرعة، التي يديرها الكمبيوتر، ويوجه أسلحتها الليزر...
وبالمقاومة استلهم العراقيون النموذج الفلسطيني الذي استلهم النموذج الإنساني كله، بينما استلهم الأميركيون النموذج الإسرائيلي في حروب تدمير المدن وحرق الأرض وقتل البشر عشوائيا، نقلا عن النموذج النازي، ومع ذلك فإن المقاومة العتيدة توقع بالغازي أفدح الخسائر...
ثانيا: انتقلت الحرب النظيفة سريعا إلى حرب قذرة دموية، تتعمد تدمير المدن، وبنيتها الأساسية، تقصف الأسواق الشعبية والأحياء السكنية لقتل أكبر عدد من المدنيين، تدمر المرافق والخدمات، من محطات الكهرباء والماء وشبكات التلفزيونات والجامعات والمدارس، إلى قصف وحرق وزارات الخارجية والتخطيط والصحة والإعلام ومؤسسات الصحافة والتلفزيون، ما أوقع أفدح الخسائر في كل اتجاه... هكذا تكون الحروب النظيفة إذا!!
ثالثا: لايزال العجز العربي في مواجهة افتراس قوى الاستعمار الجديد لدولة عربية، قائما، بل الأنكى ان هذا العجز تحول إلى رديف مساند لهذا الاستعمار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة... وإضافة إلى تقديم التسهيلات والقواعد المعروفة وغير المعروفة، اكتسب العجز العربي يدا ولسانا، «أشد من وقع الحسام المهندِ»...
اليد واللسان العربيان يصرحان علانية ـ ويعملان طواعية، لكي تحقق الحرب الانجلو - أميركية غاياتها، لكن بشرط السرعة والحسم، ويبرران ذلك بأن النظام العراقي الديكتاتوري الفاسد - وكأنه الوحيد - يستحق تدميره، وان المعركة محسومة لصالح أميركا طبعا، وان المقاومة هي صرخة الموت انتحارا، ولذلك وجب البحث عن نصيب ولو صغير من الكعكة، وهاهم تجار الحروب وسماسرتها ينشطون بقوة بحثا عن صيد صغير!
رابعا: تبقى الحرب الإعلامية ـ النفسية هي الأكثر تأثيرا، فالمواطن العراقي محاصر ومحروم حتى من إعلامه بعد تدمير مؤسساته، والمواطن العربي مشوش وسط هذه الحملات الضبابية المتناقضة، التي تتعمد تغييب الحقائق الصحيحة والمعلومات السليمة، في حين انفردت فئة صاعدة حديثا، من «المعلقين والمحللين الاستراتيجيين» ببسطاء الناس، عبر الصحف وشاشات التلفزيون، تفتى فيما تعلم وفيما لا تعلم، وعلى الله الأجر والثواب!
أما الأهم، فهو تغييب الرأي العام الأميركي خصوصا، وحرمانه من حقائق ما يجري في أرض المعارك ومساحات للحرب، فإذا به أسير نشرات الإدارة الأميركية وحبيس المؤتمرات الصحافية للوزراء والجنرالات المسئولين عن هذه الحبر العدوانية، محروم من معرفة مصير جنوده الذين يحاربون على بعد آلاف الأميال باسم الحرب العادلة النظيفة، حرب الأخيار المؤمنين، ضد الأشرار الارهابيين...
وعلى رغم درجات النقد التي بدأ الاعلام الاميركي يتعرض لها بسبب حبسه للحقائق وفقده للصدقية، فإن هذا الاعلام بدأ يفقد خلال هذه الحرب اهم مميزاته في الحرية والتعددية والاستقلالية، وبدا مثل اعلام عالمنا المتخلف لا ينقل الا نشرات الوزارات وتصريحات الوزراء، وفق تعليمات الرقيب الخفي!!
وبقدر سقوط الاعلام الاميركي اسيرا في قبضة حرب التضليل الاعلامي والحرب النفسية التي يديرها خبراء البنتاغون، مما وضعه في اشد المواقف حرجا، كتلك التي سقط فيها في بدايات حرب فيتنام، الا ان سقطة بعض الاعلام العربي كانت أكثر شدة وحدة.
فهاهو بعض اعلامنا يتعامل مع الحرب الاستعمارية ضد العراق، تحت شعار الحيادية والموضوعية، وكأن هذه الحرب تدمر بعيدا عنا ضد دُولية في قلب اميركا الجنوبية او على اطراف آسيا، أو كأن غزو العراق واحتلال بعد تدميره، لا يمثل ضربة قائمة للأمن القومي العربي، وكأن شعب العراق مجموعة من قبائل الهوتو الافريقية أو الهنود الحمر الاميركية.
الأخطر هو ان مثل هذا الاعلام العربيّ الاسم، الاميركي الانتماء، صار يروج علانية لمشروعية الحرب الاميركية على العراق، مثلما برر من قبل مشروعية الحرب الصهيونية على الشعب الفلسطيني، واصبح يحدد ويتبنى الخط السياسي الاعلامي الانجلو اميركي، المبرّر لغزو العراق وتدمير شعبه وثرواته وتفتيت وحدته السياسية والجغرافية والتاريخية.
وبهذا السلوك المعوج والمنطق المقلوب، اصبح مثل هذا الاعلام المسمى عربيا مشاركا بشكل مباشر في حملة التضليل السياسي الاعلامي التي تصف الحرب العدوانية الدموية بأنها حرب عادلة ونظيفة، حرب الحرية للعراق، وبالتالي اصبح عضوا اصيلا في جيوش التحالف الانجلواميركي، على رغم ان الحقائق ساطعة فوق مياه دجلة والفرات وبردى والنيل...
وحين تضطرب السياسات، ويبغبغ الإعلام وتضلل الصحافة، تصبح المراوغة هي جوهر القضية، هي الفكر والسلوك، المنهج والأسلوب... ووسط هذه الموجات الضبابية المراوغة، من حقنا أن نسأل، أين تقع بالضبط مصلحة الوطن على خريطة الحرب الاستعمارية القائمة وتداعياتها المقبلة، تلك المصلحة التي يجب أن يبحث عنها الكل، ويساوم بها البعض؟!
بوش يغزو العراق باسم مصلحة وطنه، وبلير يرافقه دفاعا من مصلحة وطنه، وصدام يقاوم باسم مصلحة وطنه، ولكل من هؤلاء سياسات وأهداف محددة واضحة، فأين باقي النظم العربية في هذا المعترك الدامي والدرامي؟ هل مازالت تناشد وتطالب وتدين وتشجب ثم تغسل الأيدي وتنام... الجواب واضح...؟
لكن الأوضح أن نقول ان خطورة السياسات المائعة والمواقف المراوغة في هذه المرحلة الخطيرة، تنبئ بمستقبل أشد وطأة وأحد أزمة، لأن «الحليف الأميركي» لن يرحم أبدا المواقف المائعة، كما أن شعوبنا المنتفضة لن تتسامح اطلاقا مع السياسات المراوغة!
خير الكلام: يقول عبدالوهاب البياتي:
لنْ تستعبدُوا بغداد...
لنْ تجدُوا أيُّها الفاشيست
في انتظاركم...
إلا طبولَ الموتِ والرماد
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 211 - الجمعة 04 أبريل 2003م الموافق 01 صفر 1424هـ