العدد 2103 - الأحد 08 يونيو 2008م الموافق 03 جمادى الآخرة 1429هـ

وراء كل صفقة ثمن... اتفاق الدوحة جعل قطر دولة «كبرى»

ما الثمن الذي كسبته دولة قطر من وراء اتفاق الدوحة؟ سؤال ينم عن عفوية متناهية إلى درجة الغباء. فأبسط قواعد العمل السياسي تقول إن وراء كل صفقة ثمن، ولكن ما حجمه؟ وما حجم ما دفع من أجله؟ وهل يتساوى الحصاد مع الزرع أم ماذا؟

وأيضا هذا الاسترسال صار من البدهيات. فالدور الذي قامت به قطر لم يأتِ من فراغ أو نزل عليهم الوحي فأنقذوا قوما متقاتلين؟

أصحاب الفضول تنتابهم حالة من «الكراهية والحسد» كيف أن دولة مثل قطر الصغيرة بحجمها السكاني والجغرافي تستطيع أن تنجز سياسيا ما عجز عنه الكبار طيلة ثلاث سنوات تقريبا. ولذلك يتساءلون: كم دفعت من المال؟ وما المبالغ التي وزعت على أصحاب طاولة الحوار اللاعبين الإقليميين؟

أما أصحاب الرأي والخبراء السياسيين فينظرون إلى المحصلة تبعا للمعطيات والمقومات التي أنتجت مثل هذه «التسوية»... فقطر كانت المؤهلة للقيام بهذا الدور؛ لكونها تستطيع أن تتعامل مع كل الأطراف دون أن تحسب مع فريق ضد آخر كما هو الحال القائم مع القوى المشاركة في مواجهة قوى مناهضة لها وبما ينفي عن هذه القوى دور الوسيط المحايد.

قطر امتلكت مقومات دور الوسيط المرغوب فيه والمرضي عنه من كل الأطراف تقريبا وإن كان على مضض. فقد عرفت كيف تستغل علاقاتها الجيدة مع إيران وسورية وتنقضّ باللحظة الحرجة على الدخول في أتون المعركة وتختار التوقيت المناسب فهي حليف رئيسي للولايات المتحدة الأميركية وصديقة مقربة من «إسرائيل» بالسياسة والاقتصاد. معنى ذلك أنها تحمل عناصر قوة وتوازن تمكنها من إحراز تقدم وهو ما لم يكن متاحا للقوتين الإقليميتين أن تقوما به. فالدور المصري أصابه الجمود، فثمة متغيرات وضعت سقفا على قوته في محيط الدائرة العربية بعد دخول شركاء جدد مثل إيران وانتشار القوة العسكرية الأميركية بالعراق وإضافة أوزان جديدة على حد تعبير الكاتب مكرم محمد أحمد في صحيفة «الأهرام» لقوى صغيرة محلية لم يكن بالإمكان أن تتحرك في هذا الفضاء القريب من قبلُ لعجزها عن ذلك ولضعفها وعدم توافر عناصر القوة والنفوذ لها.

في كل الأحوال أعطى اتفاق الدوحة لقطر مرجعية عربية ودورا في حل الأزمات قد يرفعها إلى مصاف الدول «الكبرى» إلى جانب السعودية ومصر.

ومن وحي أجواء الاتفاق كان واضحا نوع التحليلات السائدة عند كتبة ومفكري «مدرسة الاعتدال» التي عملت على ترويج مقولة «الصفقة والثمن» من باب الغمز واللمز على الدور القطري الذي خطف النجومية هذه المرة من الكبار وحرمهم قطف الثمار؛ لأن اللعبة تقتضي أن يكون هناك من يتحكم في مؤتمر الدوحة من الخارج في إشارة إلى التبعية وفقدان الاستقلالية والقدرة على اتخاذ قرارات بذلك الحجم، أي أن المايسترو للوساطة لم يكن قطريا بل هو نتيجة «توافق إقليمي ودولي» لم يكن ليحدث دونه. فهذا التوافق كان ثمرة «صفقة سياسية» دفعت الفرقاء اللبنانيين واللاعبين الكبار لتقديم تنازلات.

فالكاتب بمجلة «المصوّر» والقريب من السلطة عبدالقادر شهيب أسهب في الحديث عن الصفقة والتنازلات. فسورية من وجهة نظره أبعدت خطر المحكمة الدولية بتسهيل الحل، وإيران أبعدت حظر الضربة الأميركية عنها بالضغط على جماعتها، وأميركا أبعدت عنها خطر التأزم بتورطها في العراق، والسعودية أبعدت عنها خطر التمدد الإيراني في الخليج بإقناع حلفائها بتقديم تنازلات! وعلى هذا المنوال كان هناك رأي آخر مفاده أن «صفقة الدوحة» جرت في ملعب آخر خارج بيروت، كان مسرحها ببغداد وبين أطراف لهم مصالح متشابكة هم إيران وتركيا وأميركا تمثلت هذه المصالح بالتوافق على عدم السماح بقيام دولة كردية شمال العراق وإراحة القوات الأميركية من أعمال التفجير والعنف لتسهيل دخول الجيش العراقي والأميركي مدينة الصدر لحفظ ماء وجه القوات الأميركية وهي على وشك الرحيل من العراق.

خلاصة الأمر أن الصفقة حصلت وإن أعطيت تسميات مغايرة وأن قطر تزهو بحالها، وها قد رأيناها كيف تابعت دبلوماسية اللقاءات الثنائية على الأرض من خلال حملة سياسية قام بها الأمير مع رئيس الوزراء والطاقم الوزاري المكمل في رحلات سريعة وحثيثة وقف فيها على آلية التنفيذ وتوفير أجواء توافقية تشجع على المضي بضمان الحل والاستقرار في سعي حثيث لضمان التنفيذ والحرص على الالتزام ببنود الحل وهو أسلوب تفتقده معظم المبادرات العربية التي يوكل أمر حلها إلى جامعة الدول العربية.

صفقات وأثمان

ما فعلته قطر لم يكن استثناء في تاريخ الوساطات والمبادرات السياسية التي تعج بالصفقات ومنها ما ارتبط بالأزمة اللبنانية التي استهلكت الكثير منها، وخصوصا اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية بعد 14 سنة من نشوبها والدور الذي توجت به المملكة العربية السعودية ودبلوماسيتها الهادئة بجمع الفرقاء المتحاربين على أراضيها للخروج باتفاق سياسي طال تغييرات في توزيع الصلاحيات على مستوى النظام السياسي والدستوري وحصص الطوائف فيه.

وهو اتفاق جاء على خلفية توافق أميركي - سعودي بالدرجة الأولى أفضى إلى ذلك الحل وحققت فيه السعودية مكسبا سياسيا يعكس حجم الدور والقوة اللذين تتمتع بهما تماما كدور الوساطة الذي قامت به وجمعت الفرقاء المتقاتلين على الساحة الفسلطينية لترعى اتفاق مكة بين حماس وسلطة محمود عباس «الشرعية».

تركيا بدورها لم تخفِ رائحة «الصفقات» في توسطها للسلام بين سورية و «إسرائيل» والتي قد تضطر لدفع ثمنه مثلما سيدفع طرفا الخلاف، فمياه نهري دجلة والفرات كانت محل مساومة والخطة تقترح أن تنسحب «إسرائيل» من الجولان وتصبح المياه العذبة هناك تحت السيطرة السورية على أن تتعهد سورية لـ «إسرائيل» بتزويدها بكمية من المياه سنويا من دون مقابل في الوقت الذي تزوّد تركيا سوريةَ بكمية من المياه هي المياه نفسها التي ستزود بها «إسرائيل».

ربما كانت قصة «تهريب» زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان في منطقة البقاع اللبنانية التي كانت تخضع للنفوذ والحماية السوريتين من الروايات الأكثر تشويقا في عالم الصفقات. فقد استخدمته سورية ورقة ضغط ومساومة ضد جارتها تركيا وكادت تحدث حرب «وتدمر سورية فوق رؤوس حكامها خلال 24 ساعة» على حد تعبير رئيس الوزراء آنذاك مسعود يلماظ، عندما وجهت تركيا مدافعها على الحدود باتجاه سورية استعدادا لقصف دمشق إذا لم تفرج عن أوجلان وترفع الحماية عنه وتتعهد بعدم عودته إلى أراضيها وبعدم السماح لعناصر حزب العمال باستخدامها ممرا أو مقرا، أي بمعنى أوضح إقفال الملف الكردي نهائيا.

وقيل في حينه إن الصفقة التي عقدت بوساطة مصرية تقضي بأن يحفظ الرئيس السوري السابق حافظ الأسد نظامه وحكمه مقابل إطلاق أوجلان تمهيدا لمحاكمته في تركيا على الجرائم التي اقترفها والتراجع عن قصف دمشق وإجبار سورية تحت التهديد على إخراجه من البقاع.

والصفقة التي سبقتها جرت بين روسيا وتركيا عندما أحجمت الحكومة الروسية عن منحه اللجوء السياسي بعد أن عقدت اتفاقا مع شركات النفط الأميركية وأنقرة تحسم فيها الخلاف في تقاسم نفط بحر قزوين مقابل التخلي عن مساندة زعيم حزب العمال الكردستاني.

ليبيا من جانبها أقدمت على عقد «صفقة» علنية شهيرة العام 2003 عندما أعلنت تخليها عن إنتاج أسلحة نووية والتعهد بدفع تعويضات لضحايا حوادث خطف الطائرات وتفجيرها التي كانت قد اتهمت بالتورط فيها مثل تحطم طائرة لوكيربي فوق اسكتلندا ودفع 10 ملايين دولار عن كل ضحية وتعويضات تفجير الملهى الليلي «لابيل» في برلين العام 1986 وتفجير طائرة «يوتا» فوق النيجر العام 1989... كل ذلك مقابل رفع اسمها من لائحة الإرهاب التي اعتمدتها واشنطن وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين والشرعية الدولية للنظام الليبي «الشرير»!

الصفقات في عالم السياسة لا تتوقف واستعراضها سيكون مفيدا. بالتدليل على ما جرى بالدوحة تبقى الإشارة إلى شيء مهم في هذا السياق وهي أن المصطلح الذي يستخدم في وصف العملية السياسية له أبعاد ودلالات ذات شأن. فالصفقة غالبا ما تثير الشبهات وأن هناك غالبا أو مغلوبا، قابضا أو مرتشيا، متضررا أو مستفيدا، يعني يدخل فيها معنى «المؤامرة» الذي تستسيغه العقلية العربية؛ لكونها اعتادت أن تكون «الضحية» في الغالب من الصفقات التي تجري على حسابها وباسمها.

العدد 2103 - الأحد 08 يونيو 2008م الموافق 03 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً