في الأسبوع الماضي، وقبل ان تكمل الحرب الاميركية البريطانية على العراق يومها العاشر، تحدث البريطانيون عن انتفاضة شعبية في البصرة ضد النظام الحاكم في بغداد، لكن سرعان ما تراجع المسئولون العسكريون البريطانيون عن هذا الادعاء.
ان هذا الادعاء والتراجع عنه يثيران أسئلة حقيقية عن السبب وراء عدم قيام انتفاضة شعبية ضد النظام وخصوصا اذا عرفنا ان الأميركيين والبريطانيين راهنوا بقوة على تحرك الشارع العراقي عندما تقع الحرب.
وفي العاصمة الاردنية عمّان، وما ان بدأت السفارة العراقية بإصدار جوازات سفر عراقية جديدة بدلا من المنتهية الصلاحية وتم إعفاء أصحابها من رسوم الاقامات المتراكمة عليهم بفعل الاقامة غير القانونية من الحكومة الاردنية، حتى جمع العراقيون اشياءهم البسيطة واستقبلوا حافلات متجهة إلى العراق غير آبهين بالموت، كما جاء على لسان احدهم الذي قال لإحدى محطات التلفزة: «إذا وصلنا إلى العراق سندافع عن وطننا من الغزاة وإذا قتلنا ونحن في الطريق فنحن بالتأكيد شهداء».
واذا اضفنا إلى ذلك ايضا المفاجأة التي يتحدث عنها العسكريون الاميركيون والبريطانيون عن المقاومة التي يبديها العراقيون والخسائر التي تقع في صفوفهم بشكل شبه يومي منذ انطلاق الحرب وتوقف قواتهم البرية عن التقدم منذ أيام، فإن هذا يجعلنا امام حقائق كانت خافية على الاميركيين والبريطانيين وعلى العرب ايضا.
ليس سرا القول ان هناك من يعارض النظام القائم في بغداد، وليس سرا القول ان هناك من العراقيين من يتمنى زوال هذا النظام، لكن من الواضح ان هناك سرا عراقيا جديدا كشفت عنه حوادث ومؤشرات مثل تلك التي اشرنا اليها. فعدم قيام انتفاضة شعبية مثلما كان يراهن الغزاة والمقاومة العنيفة التي يبديها العراقيون وعودة آلاف منهم من بلد آمن مثل الاردن إلى جحيم الحرب وجحيم المعاناة، كلها مؤشرات إلى حقائق مختلفة غير تلك المتداولة مسبقا عن العراقيين.
الاستنتاج الاول والاقوى الذي يتبادر إلى الذهن هو ان الشعور الوطني لدى العراقيين تغلب على خصومتهم للنظام اذا اخذنا في الاعتبار حقيقة وجود عداء للنظام.
ان اهل الجنوب والبصرة مثلا ابرز مثال على ان هذا الشعور الوطني شعور متأصل لدى العراقيين، وهو على ما يبدو الآن عنصر مؤثر في المواجهات يدفعهم إلى تغليب شعورهم الوطني تجاه الاجنبي على عدائهم للنظام.
وهن هذا الموضوع كتب حازم صاغية في صحيفة «الحياة» اللندنية في 29 مارس/ اذار الماضي مفسرا عدم قيام انتفاضة في الجنوب بقوله: «لأن اهل الجنوب وطنيون. كارهون للغريب حين يأتيهم غازيا محتلا. لقد دخلوا التاريخ الحديث مع ثورة العشرين ضد البريطانيين. وهم فخورون بالاصل والفصل والدم والنسب. بعد ذلك اعتنقوا احزابا راديكالية مناهضة للامبريالية، من الشيوعي العلماني إلى الدعوة الدينية. في هذه الغضون تجدد وعيهم المعادي للغرب بالقومية والماركسية والاسلام. تأثروا بتيارات الثقافة السياسية الشائعة في المنطقة، والتي كانت لهم حصتهم في إنتاجها».
ويضيف: «وطنيتهم ظلت، اثناء ذلك، ثابتا. في الحرب العراقية - الايرانية دافعوا عن الارض ضد الايرانيين. تخلي الاميركان عن انتفاضة 1991 عزز أسوأ تصوراتهم في ما خص واشنطن. سياسة الاخيرة حيال طهران قوّت اتجاهاتهم المتفاوتة بين حذر وعداء للولايات المتحدة. الحصار آذاهم مثل سائر العراقيين، ونجح النظام في تقديمه إليهم مسئولية اميركا وحدها».
من جانب آخر، قد يتساءل البعض كيف لأولئك العراقيين الذين يعيشون في بلد آمن مثل الاردن ولديهم فرص عمل فيه، ان يختاروا العودة إلى العراق في مثل هذه الظروف؟ وكيف لهؤلاء ان يعودوا إلى العراق ليعيشوا تحت ضغوط السلطات العراقية وعقابها كما دأبت الادارة الاميركية على ترديد هذه العبارات لكي تبرز المقاومة الشعبية التي استقبلت بها مدن الجنوب العراقي غزاتها، ما جعل الادارة الاميركية تتحدث عن فرق موت تجبر الشعب على المقاومة.
هؤلاء ببساطة وطنيون وان اختلفوا مع النظام العراقي فهم يحبون وطنهم ويكرهون رؤية الغزاة وهم يقتحمون مدنه ويقتلون ابناء شعبه بهذه الوحشية.
العراقيون على اختلاف توجهاتهم وأطيافهم السياسية من بعثيين وشيوعيين أو من اتباع الحركات الدينية، هم في النهاية وطنيون وضد أطماع الاميركيين، ولا اعتقد انهم ينتظرون دروسا اميركية في التحرر وهم من قاتلوا بشراسة ضد غزاتهم عبر التاريخ.
أما معسكرات الاغاثة التي اقامتها المنظمات الدولية في منطقة الرويشد الحدودية بين العراق والاردن تحسبا لتدفق اعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين الفارين من العمليات العسكرية، فهي الاخرى شبه خالية من اي لاجئ عراقي ولم تستقبل طوال الأيام الماضية سوى مواطنين لدول اخرى. وهذا ما يعكس ان العراقيين لم يصلوا إلى درجة الهروب وترك الديار وراءهم على رغم قسوة القصف على مدنهم.
اذن لن يكون هناك استقبال مبهج للمنقذين الآتين من الغرب، كما صورت الولايات المتحدة الامور، وهي تحكم حصارها على العراق طوال السنوات الماضية لعل وعسى أن يبدأ العراقيون بزراعة الورود التي سيستقبلون بها الاميركان والبريطانيين.
ان اكذوبة التحرير لم تلق قبولا إلا لدى الشعب الذي يجهل الكثير من الامور عن «الشرق الاوسط»، وواقع العمليات العسكرية الاميركية - البريطانية يثبت ان هؤلاء جاؤوا للسيطرة على آبار النفط وليس لتحرير شعب العراق من قيادته.
أما قوى المعارضة العراقية التي تعيش من خلال شريان التغذية الاميركية فلم تستطع حتى الآن ان تخلق لها كيانا مقبولا ومحترما حتى من قبل الاميركان على الاقل. لقد بقيت حتى آخر مؤتمر عقد لها في لندن تتكلم بلغة الحصص ولم تتطرق إلى الهم الاكبر وهو وحدة وطنها (العراق) وهو ما يفترض ان يكون همّا في قلب اي انسان يحب وطنه، ويعتبر نفسه وطنيا يسعى إلى مصلحة شعبه. ومنهم من كان يخرج لنا على شاشة التلفزة وهو يرتدي بدلة فاخرة ويبدأ بإعطاء محاضرة عن قسوة النظام العراقي. منهم على سبيل المثال من خرج من احدى الدول العربية بفضيحة مالية بعدما سرق مصرفا بأكمله وأصبح الآن يتكلم بلسان المعارضة والوطنية. ومنهم من جاء لعقد صفقات تجارية لصالح الحكومة العراقية واختلس اموال وطنه وبعد ذلك اصبح حريصا على الهم الوطني. اشك في ان يقبل العراقيون بقادة فصلوا على المقاييس الاميركية بهذا الشكل. سيتساءل الكثير من العراقيين وخصوصا الذين عاشوا سنوات الحصار الماضية ويعيشون اليوم اصعب ايامهم تحت قصف مكثف لبيوتهم واسواقهم، أين كان هؤلاء القادة والعراق يُقصف ويُدمر بهذا الشكل؟. هل سيرضى العراقي بقائد كان ينعم بهدوء احياء لندن والعراق يُدك بالصواريخ والقذائف كل يوم؟ وهل يقبل العراقي بقائد ثبت عرشه بأوتاد دقت بنعوش العراقيين وأكفان اطفاله؟
العدد 210 - الخميس 03 أبريل 2003م الموافق 30 محرم 1424هـ