هل استطاعت نهوند القادري عيسى أن تجيب على الاسئلة التي طرحتها في بداية مقدمة كتابها «قراءة في ثقافة الفضائيات العربية»؟ ماذا أضافت للقارئ العربي من حصيلة الدراسة التي وقع الاختيار فيها على النموذجين اللبناني والخليجي؟ وهل تمكنت هذه الفضائيات من أن تحمل إلى جمهورها ثقافة مواطنة قائمة على المساءلة والمشاركة وحس المسئولية وترتيب علاقة متكافئة مع السلطات الحاكمة ومع المجتمع المدني؟
اختارت المؤلفة من النموذج اللبناني المحطات التالية «المنار»، «إل. بي. سي» و «المستقبل»، ومن النموذج الخليجي: «دبي» و «الجزيرة» و «العربية».
الانتشار الفضائي قلب المشهد الإعلامي العربي من عصر القناة الواحدة والوجهة الواحدة في البلد الواحد إلى عصر مئات الفضائيات، إذ قدر في العام 2000 عدد القنوات الفضائية التي تسقط على المنطقة العربية بنحو 452 قناة، تضاعف هذا الرقم في السنوات الثماني حتى قارب الألف قناة... وسجلت الساحة العربية طفرة فضائية تشبه كثيرا الطفرة النفطية التي يمكن العثور عليها من خلال «الريموت كونترول»، ولاسيما في منطقة الخليج العربي عموما.
التحولات التي طرأت على المشهد الفضائي العربي يمكن ملاحظتها من خلال ظاهرتين الأولى التنوع في القنوات والغزارة في الإنتاج بإطلاق الفضائيات الخليجية، والثانية أن بعض القنوات غدت بمثابة مدارس إعلامية، إذ شكلت «الجزيرة» منذ انطلاقتها ظاهرة إعلامية أثارت الكثير من الجدل ودفعت بالسعودية وغيرها إلى أن تنشئ محطات فضائية للرد عليها ومنافستها وأن تفرز طبقة جديدة من النجوم الإعلامية. بينما شكلت الفضائيات اللبنانية ولاسيما «المستقبل» و «إل. بي. سي» نموذجا في مجال المنوعات والترفيه وشكلت «المنار» نموذجا لثقافة المقاومة...
تم اختيار النموذجين من الفضائيات لبناني وخليجي وبالتالي قراءة نماذج من برامجها الحوارية والثقافية والاجتماعية ونشرات الأخبار نظرا إلى العلاقة المعقدة التي نسجت بين هذين الإعلامين والقائمة على حاجة أحدهما إلى الآخر، أي حاجة الإعلام الخليجي إلى الخبرات اللبنانية وحاجة الإعلام اللبناني إلى رأس المال الخليجي وإلى القدرة الشرائية للجمهور الخليجي لدرجة تخال نفسك أمام نموذج مركب يصعب تحديد الخليجي عن اللبناني منه. كما نظرت إليه الكاتبة، بوصفه نموذجا تحركه دوافع مادية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية.
إنه نموذج قائم على تنافس وأحيانا صراع مصالح بين أطراف وموازين قوى في كل من لبنان والبلدان الخليجية سياسيا أكان أم إعلانيا أم ماليا...
وجرى تقسيم المحتوى إلى ثلاثة أقسام: نشرات الأخبار، والبرامج السياسية الحوارية، والبرامج الحوارية الاجتماعية والثقافية والبرامج الترفيهية.
صراع العمالقة
في الفصل الثاني من الكتاب تسرد ظروف نشأة الفضائيات وفلسفة بثها وتصورها لمحتواها وكيف دخلت الفضائيات العقل العربي من دون استئذان وراح عمالقة التلفزيون يتصارعون عليه أمثال (CNN) و(BBC) و «كوربوريشين» أقله في المجال الإعلاني، وخلق الانفجار التلفزيوني أوضاعا في المنطقة العربية يتجاذبها القلق من قبل الحكومات التي أفلتت الأمور من بين يديها ومما يلي القنوات الأرضية المحلية التي وجدت نفسها تخسر مشاهديها ومواردها الإعلانية وإن قابل هذا القلق، ارتياحا على صعيد الجمهور، وحتى العام 2004 وصل عدد القنوات الفضائية العربية إلى نحو 150 قناة أي بمعدل قناة واحدة لكل مليون عربي وعرفت نموا في عددها وطبيعة مواردها بالسنوات اللاحقة.
وتشير القادري في الفصل الثالث إلى التحولات التي شهدتها الفضائيات العربية والقنوات التي غدت «مدارس» لها خصوصيتها وأهدافها ففي مجال «التوك شو» الاجتماعي كانت المحطات اللبنانية النموذج الأكثر جرأة، إذ راح المشاهدون العرب يستغربون وينبهرون به أو يمتعضون من جرأته وباتوا يقلدونه ويستنسخون برامج مقلدة في الأصل لبرامج أجنبية...
قراءة الخلاصات في الكتاب الذي احتوى على 11 فصلا تقدم أفكارا رئيسية عن ثقافة الفضائيات، فعلى مستوى البرامج رصدت المؤلفة حالة المجتمعات العريبة التي تتدرج إلى مجتمع يستعمل التلفزيون تحت عنوان ملء أوقات الفراغ ومجتمع مرفه يعاني التخمة في الأموال ويعيش حياة استهلاكية فوق العادة ومجتمع يعيش بالظاهرة حياة محافظة وضمنا يتعايش مع أساليب ما بعد الحداثة، أما على صعيد الأفراد فغالبيتهم تحولوا إلى أفراد منفصلين ومنعزلين فاقدي الاتصال الفعلي بالآخرين، بحيث أصبح الإعلام الفضائي مساهما أساسيا في تشكيل ملامحهم بأنهم ذو بعد واحد وفاقدين للهوية وأصحاب نزعة استهلاكية يعانون العزلة والضياع.
حال الفضائيات العربية
الواقع الذي تعيشه الفضائيات يوحي بأمور عدة منها:
1 - ضعف مقدرة معظم الفضائيات العربية على وضع تصور في إنتاج ثقافة عربية متنوعة ومتجددة.
2 - ضعف مقدرة غالبية الفضائيات في الخروج من جوقة التقليد والمحاكات المكررة لبعضها بعضا والعمل على إنتاج ثقافي محلي يعبر عن المواطنين بمختلف توجهاتهم ويحرص على التنوع والتعدد داخل هذه الثقافة من دون التفريط بوحدة المجموعة.
3 - التصقت الفضائيات بأهل السلطة والنخب الموالية لها واختلطت أدوار الإعلاميين بالسياسيين.
4 - الانتقال مع إعلام الموجة الثالثة إلى تجارة المفرق مباشرة حين بدأ «الكيبل» بتجزئة الجمهور وتبعه الفيديو ثم البرامج المباشرة من الأقمار الاصطناعية فأزيلت الحدود القديمة بين المشهد والسياسة، بين الأخبار والمنوعات بين الإعلام والدعاية، لذلك فاقت الإثارة الإعلام الجدي.
5 - الترويج لأيديولوجيا الاتصال والصعوبة في تحديد دور المثقف، أيديولوجيا وصفت نفسها بأنها ناعمة فلا ضحايا من جرائها ولا أعداء لها، عدوها الوحيد الفتور وعدم الاتصال، وبالتالي شاعت سيادة قوانين السوق وأصبح دور الفضائيات فرملة التغيير والحفاظ على الأوضاع الراهنة، ونتاج ثقافة جديدة تعمل تحت دكتاتورية الاستغراب والذهول.
6 - تخلي المثقف عن ميزته الأساسية، ميزة التغيير بحيث راح يعمل لصالح ما هو عابر، ما هو متوافق عليه، فتحول إلى «إعلاموقراطي» وإلى مثقف جديد يثبت يوميا جدول أعمال الفضاء العام.
7 - أصبح «اللوك» أي المظهر نوعا من الأيديولوجيا، وعلاقات القوى أصبحت قوى إغراء والأيديولوجيا تحولت إلى نوع من الفيديولوجيا نسبة إلى الفيديو...
وتعتقد الكاتبة أن المفارقة بثقافة الفضائيات أن الوسائل المستخدمة فيها والمضامين التي تحتويها وإن كانت محل جدل ونقد قد تكون هي نفسها أسلحة التغيير في الغد في ظل هامش من الحرية يسع الجميع.
وخلصت قراءة البرامج الحوارية والترفيهية إلى أن هذه البرامج تحولت إلى صخب وتوتر وقلق، لأن الضجة بالنسبة إلى الاتصال هي كل ما يشوش أو أي شيء يثير إضرابا في البرنامج، وبقيت عند حدود الـ «مع» والـ «ضد» إلى درجة الابتذال ومن ثم الاستهلاك وأن الآراء لم تطلب في هذه البرامج لقيمتها وإنما لغاية استهلاكية أو لتركيب مشهدية معينة.
وتتساءل في ضوء ما أوضحته من تحولات على آليات عمل التلفزة، هل غدا فعلا إنسان الستلايت وآلات التصوير أنه لم يعد هناك أية حدود أمام نظرائه؟ وهل اصبح قادرا على رؤية ملاحظة ومراقبة وكشف كل شيء بعدما غدت المجتمعات مجتمعات شاشات ومجتمعات سكوب وأصبحنا غرقى في مجتمع مرأوي؟ وتجيب بأن التلفزيون يخرج الحدث بالصور من ناحية ويضخم أهميته من ناحية ثانية...
وتعتقد القادري بأن الآلية المتبقية في النشرات الإخبارية قائمة على إعطاء الأولية للأحداث الصادقة غير المتوقعة التي تستدعي التعاطف أو الاستنكار وبالتالي دفع أمور المواطنين ومشكلاتهم الحياتية إلى الخلف... أما الآلية المتبعة في هندسة البرامج الحوارية السياسية، فإنها مازالت في جزء منها قائمة على المسرحة وعلى الإثارة من خلال الإجبار على الاختلاف، ما يوحي للمواطنين باستحالة التلاقي وفي جزء آخر تعتمد آلية تفكيك كل ما هو مترابط، متعاملة مع الظواهر والأحداث وكأنها معزولة وخارج سياقها وبهذا يغدو الإعلام المنتج إعلاما لفظيا.
نماذج في البرامج
أوردت القادري بعض الأفكار التي أبرزتها البرامج الحوارية والمرتكزة في غالبيتها على أحكام مسبقة فيها الكثير من الصخب والضجة وإفراغ الخطاب السياسي من محتواه وجعل الكلام وسيلة لإخفاء التفكير ولإسكات الآخرين...
مثلا أرادت «الجزيرة» أن تقول في برنامجها «الاتجاه المعاكس» أن التطبيع مع «إسرائيل» آن أوانه، إنما شرط ألا يكون مجانيا والغمز من قناة السعودية على أن الإسلام المتطرف يسيء إلى الإسلام.
أما تلفزيون «دبي» فعمل على تفكيك المسارات التوحيدية بطريقة لافتة، الشيعة عن المسلمين، الأكراد عن العرب، الخليجيين عن العرب، الإمارات عن الخليج، ودبي عن الإمارات!
وفي «العربية» فك المسار اللبناني عن السوري وعن الصراع العربي - الإسرائيلي، وفك مسار محمود عباس عن حماس وحزب الله وتكريس سياسة المحاورة، أما في «المستقبل» فتوجهت ببرامجها نحو لوم حزب الله على وقوفه مع سورية ولوم عون لفك تحالفه مع فريق 14 آذار وإتهام الأجهزة الأمنية اللبنانية - السورية باغتيال الحريري.
وفي الـ «إل. بي. سي» عزل الدولة اللبنانية عن أجهزتها الأمنية والتدخل الأميركي في لبنان عن مصلحة «إسرائيل» وحزب الله عن النسيج اللبناني.
و «المنار» وقعت في فخ جدول الأعمال المطروح على الساحة اللبنانية حيث خف الكلام عن العداء التاريخي مع «إسرائيل» وأميركا لصالح الاستغراق في الانقسامات المحلية اللبنانية.
دور الوكلاء والاستنتاج
لقد أولت الفضائيات اللبنانية دورا أكبر لبرامج الترفيه التي أوكل أهل الخليج أمرها إلى اللبنانيين بشكل كبير، حيث وجدوا أنفسهم بوضعية مربكة، أن لديهم إمكانات لولوج العولمة من بابها التكنولوجي الاقتصادي، لكنهم أمام العولمة الثقافية التي تمس بالرمز وتطال المقدس، لقد أرادوا التغيير إنما ليس على أيديهم، بل عبر وكلاء...
وظهر ذلك من خلال البرامج الترفيهية التي تبثها «المستقبل» والـ «إل. بي. سي» وهما المحطتان اللتان تتنافسان على السوق الخليجية بشكل محموم وهو ما أثار الجدل في برامجهما داخل المجتمعات الخليجية استنكارا واستحسانا إلى أن وجدت الأخيرة نفسها في وضعية غير القادر على المنع وعلى حجب الصورة الآتية من المحطات الأجنبية...
الاستنتاج العام أن الفضائيات العربية في معظمها وقفت على تخوم التفكيك للثقافة التقليدية السائدة ولم تتمكن في غالبيتها من الانتقال إلى مرحلة البناء، لأن ذلك يتطلب جمهورا ناقدا وإلى جدول أعمال خاص بالمجتمعات العربية ولا يقوم إذا كان المناخ الفكري والثقافي السائد تتقاسمه من ناحية، المبالغة في الأصولية والاحتماء بالدين وتمجيد القديم خوفا من كل جيد ومن ناحية ثانية، الانبهار بكل ما هو جيد واحتقار كل ما هو قديم والتنكر للماضي وعبادة الاستهلاك.
العدد 2099 - الأربعاء 04 يونيو 2008م الموافق 29 جمادى الأولى 1429هـ