العدد 2097 - الإثنين 02 يونيو 2008م الموافق 27 جمادى الأولى 1429هـ

حروب العرب «وسخة» وحروب الآخرين «نظيفة»!

الأصوات المشاكسة كالعادة تقول ان هناك حروبا «نظيفة» وأخرى «وسخة»! والأصوات الأكثر تفاؤلا تدعي أن الحروب تجوهر الشعوب! والاصوات الأقرب للواقعية تعترف أن منطقة الشرق الأوسط كانت على الدوام ساحة تاريخية للحروب الوحشية!

أشك بالقول ان هناك حروبا نظيفة تلتزم جوانب النوازع الإنسانية في مواجهة النوازع الوحشية فأصحاب هذا الرأي «يزينون» الحروب ويضفون عليها صفات ليس منها أو فيها والحرب كما وصفها المنظر والمحلل العسكري البروسي كارل فون كلاوسفيتس اشبه «بالحرباء الحقيقية» فهي قادرة على تغيير لونها بشكل دائم وبما يتوافق مظهرها مع الظروف الإجتماعية والسياسية المتقلبة.

أكثر من ذلك ذهب البعض إلى جعل الحروب عملا مربحا أو بمعنى أوضح «تجارة وبيزنيس»...

فهؤلاء يعتقدون أن شن الحرب لم يكن دائما عملا يؤدي إلى الخسارة على العكس من ذلك عندما كانت الأحوال ملائمة في تاريخ أوروبا كان تجنيد الجيوش الخاصة عملا مربحا للغاية ولولا ذلك لكان من الصعب، تفسير اسباب ظهور قوات المرتزقة، فهذه القوات كانت تنظر إلى الحرب كمصدر لكسب الرزق وقد لا يكون بعيدا هذا التفسير عن حروب القرن الحادي والعشرين التي تتعهدها دول عظمى كمشروع مقاولات على الطريقة الأميركية مثلا.

لن ندخل في متاهات تصنيف الحروب لكن يكفي النظر بمقولة الكاتب الألماني «آن لانغ» التي تقول ان رعاة الحروب لا يتحملون كلفتها عادة لأن أمراء الحرب وقادة الميليشيات يتعاملون بطريقة مجحفة بهدف خصخصة أرباح الحرب التي يشنونها لصالحهم، ثم يعممون تكلفتها على الشعوب وهذه من أسباب فشل بناء المجتمعات والدول خاصة في دائرة العالم الثالث الذي تمضي فيه أعمال العنف والتدمير لتنخر في عمق هذه المجتمعات ويصبح الإنقاذ أملا بعيد المنال ويرهن مصيره بتدخل قوى أجنبية... وهنا تتخطى النزاعات حدودها الإقليمية وتوضع في سلة المتعهدين الكبار الذين يجهدون بجني مكاسب سياسية وإقتصادية من وراء تلك التدخلات.

ما بنا والأمر لا يحتاج إلى تنظيرات وإستشهادات فهذا روبرت فيسك الكاتب والصحافي البريطاني المعروف يعنون كتابه «الحرب العظمى من أجل الحضارة»! بعد 30 سنة من العمل في منطقة الشرق الأوسط ومن الحروب التي شهدها وعاصرها من الغزو السوفيتي لأفغانستان إلى الحرب الأميركية على العراق ومن الحرب الأهلية في الجزائر إلى الحرب الأهلية في لبنان والغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982 والأراضي الفلسطينية ومن الثورة الإيرانية حتى الحرب العراقية - الإيرانية... كل تلك الحروب نشبت تحت إسم «الحضارة» على رغم بشاعتها وظلمها ومآسيها وما خلفته من دمار وتراجع وتخلف...

والحرب من وجهة نظر روبرت فيسك الذي فقد والده أثناء الحرب العالمية الأولى «تمثل الفشل الكامل للنفس البشرية»...

عودة للسؤال هل الحروب عندنا غير الحروب في «العالم الآخر» وأقصد العالم الحر والغربي، وهل فعلا أن الحروب عندنا تفتك بشعوبها وتقتل فيهم روح الإبداع والبناء والحياة وعندهم الحروب تجوهر الشعوب والعظماء؟

بعد إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية العام 1989 دار نقاش واسع بين السياسيين والمثقفين العرب واللبنانيين عن خطر «اللبننة» والخوف من إنتقال المرض الطائفي الذي مزق الجسد اللبناني إلى دول خليجية وعربية وصار التشبيه «باللبننة» مثل مرض السرطان أو العدوى التي يخاف الناس من ذكرها يبتعدون عنها وهم يرددون «اللهم إبعد عنا هذا الكأس المر» يومها قيل كلام آخر مناقض تماما لما يشاع، أن اللبنانيين إستبقوا الشعوب العربية بأن أخرجوا السموم والأوساخ الطائفية والأخطاء المتراكمة من نفوسهم ودخلوا في أتون حرب أهلية كان لابد منها لأن من شأن التخلص منها الإنتقال إلى مرحلة جديدة فقد إنتهوا من تنظيف دورة الأوكسيجين بالدم وهو ما تحتاجه الشعوب الخليجية والعربية والعالم الثالث أيضا!

ويبدو أن البيئة العربية لا تعرف معنى الحروب النظيفة ولا وجود لها أصلا عند العرب ولا عند غيرهم هي فقط في عقول بعض المنظرين وعلى الورق...!

فبعد «اللبننة» ظهرت «العرقنة» نسبة للعراق، وسبقتها «الصوملة» نسبة للصومال، وتبعها «الفلسطنة» نسبة لمضارب بني غزة ومضارب بني الضفة... وكأن الزير سالم لم يغادرنا منذ مئات السنين فقصته مازال لها أتباع ومناصرين، وكليب عندما قتل بالغدر قامت بين تغلب وبكر حروب دامت دهر من الزمن وقال كليب كلمته المشهورة لو الموت أمهلني لكتبت بدمي وصية للزير سالم أبوليلى المهلهل:

وإسمع ما أقولك يا مهلهل

وصايا عشر إفهم المقصود

فاول شرط أخوي لا تصالح

ولو أعطوك زينات النهود

تاسع شرط أخوى لا تصالح

فإن صالحت لست أخي أكيد

الحروب الأهلية والخارجية لم تفارق المنطقة العربية التي خاضت مع «إسرائيل» منذ العام 1948 حروبا نظامية أربع ثم إستدارت نحونا ونقلت حروبها إلى عقر الدار وأشعلت ما تبقى من خيوط تتعايش فيها شعوب وطوائف عربية ولبنانية ومع انتهاء الحرب الباردة حلت النزاعات والصراعات الأهلية محل الحروب الكبرى وباتت أكثر مأساوية وحلولها أكثر صعوبة بعد أن أزيحت الأقنعة عن الوجوه وانكشف المستور.

من ايام الحروب الصليبية وما تبعها من نزاعات وجولات وحقبات من الكر والفر على مسرح الشرق الأوسط لم تنتج شيئا مختلفا عن الدمار وأعمال العنف والقتل والغزوات، حروب تلد حروب ودمار على حساب الشعوب... لم يحدث مرة أن نهض شعب أو مجتمع أو طائفة وقلبت الصورة وقدمت نموذجا الحياة أو مشروعا إنسانيا للعيش والسلام، لم تنتج هذه الشعوب قيادات على غرار ونستون تشرشل في بريطانيا الذي حول مصانع السيارات إلى مصانع لإنتاج الأسلحة وإمتلاكها للدفاع عن بلاده حتى الرمق الأخير ليعيد بنائها من جديد أو شعوب كالشعب الياباني الذي نهض من كبوته بعد الحرب العالمية الثانية ليبني أهم دولة عصرية حديثة «تغزو» العالم من جديد بالتلفزيون والسيارة والإلكترونيات وصناعة السفن والعلوم.

الموضوع ليس فيه خطابة، الحقائق تقول ان اليابان دمرت على الأرض من قبل الأميركان العام 1945 وإحتلوها لمدة سبع سنوات وعينوا عليها حاكم عسكري هو الجنرال «دوغلاس ماك آرثر» لكنها إبتلعت الهزيمة وقامت لتعيد بناء قدراتها وتتحول إلى أهم إقتصاد في العالم وبما يشبه المعجزة بعد أن إختفى العسكر وجاء مكانهم رجالات الإدارة وفق عمل «روح الفريق الواحد»، خلقوا ثقافة التحدي والبناء عملوا بإتقان وإنضباط مثير للغاية في إطار عقد إجتماعي جديد، حولوا أموالهم وإستثمروها في التعليم وإبتعدوا عن لغة الحرب.

وضع لهم الأميركيون مسودة دستور جديد موضع التنفيذ ونقلوا جميع السلطات السياسية من الإمبراطور إلى الشعب وألغى الدستور الجيش والبحرية وطبقوا الإصلاح الزراعي ليتملك الشعب الأرض التي يزرعها...

بإختصار أعادوا مشروع جديد للحياة بعكس ما كان الأميركيين يرددون عشية دخولهم العراق العام 2003 من أن التجربة العراقية ستكون نسخة من التجربة الأميركية الناجحة في اليابان بعد هزيمتها البشعة والمذلة.

الحروب بشعة ومتوحشة عند العرب و«معجزة» عند الآخرين أليس كذلك!

العدد 2097 - الإثنين 02 يونيو 2008م الموافق 27 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً