جاوزت الستين ولم تشخ بعد، ذكراها مازالت باقية عصية على الاقتلاع من ضمير الأمة ومن جذورها التاريخية، لم تتوار عن الأنظار ولم يكتب لها النسيان، تتجدد باستمرار، حية لم تزل نارها مستعرة على رغم السنين، نكبة هي، زادت من آلام العرب وشتاتهم، فهل ليلها سينجلي، أم علينا مزيد من الانتظار؟ إنه التاريخ، فما أثقله، بل ما أطوله!
كلمة اليهود من أكثر الدوال إشكالية، وهي تشير إلى الشخص الذي يعتنق اليهودية، ويهودي كلمة عبرية مشتقة من يهودا وهو اسم أحد أبناء يعقوب وهو مشتق من الأصل السامي القديم «ودي» والتي تفيد الاعتراف بالجميل والإقرار، أما «يهوه» فتعني الرب، وسرى هذا المصطلح على كل من يعتنق اليهودية، أما المصادر العربية فتشير إلى أن كلمة اليهود اشتقاق من قولهم: هاد إذا رجع، ولزمها هذا الاسم من قولهم لموسى (ع) كما جاء في القرآن الكريم «إنا هدنا إليك» )(الأعراف: 156) أي رجعنا وتضرعنا، وهي تطلق على اليهود المتمسكين بشريعة موسى، أما العبرانيون فهي أقدم التسميات التي أطلقت على أعضاء الجماعات اليهودية، وتطلق على الذين عبروا نهر الفرات مع يعقوب هاربا من أصهاره، أما «إسرائيل» والتي سمي النبي يعقوب (ع) بها فتعني بالعبرية جندي الإله ايل.
تقوم الديانة على اتباع ما جاء به النبي موسى (ع) والكتاب الذي يتمسكون به هو التوراة الذي احتوى على خمسة أسفار وقد افترق اليهود إلى عدة طوائف أبرزها «القرائون» و «الربانيون» وهما أكثر الطوائف تقاربا في أن توراتهم واحدة، واتفقوا على بنوة موسى وهارون ويوشع (ع)، واستقبال صخرة بيت المقدس.
أما الطائفة الأخرى المشهورة من اليهود وهي «السامرة» فلهم توراة تخصهم غير التوراة التي بيد القرائيين والربانيين، وهم ينكرون نبوة ما بعد موسى ماعدا هارون ويوشع «ع»، ويخالفونهم أيضا في استقبال صخرة بيت المقدس، إذ إنهم يستقبلون طور نابلس، زاعمين أنه الطور الذي كلم الله تعالى فيه موسى «ع».
يبقى الوجود اليهودي في التاريخ العربي صراعا أزليا قديما، شهد العرب فيه معهم أحقادا وقتالا مريرا، لقد كشف القرآن الكريم أوجه هذا الصراع في تسعة عشرة مرة تبيانا لطبيعة النفس اليهودية لقوله تعالى «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود» (المائدة: 182) والقرآن الكريم نبه المسلمين إلى هذه النفسية الملتوية لليهود، وإيقادهم للحروب «كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله» (المائدة: 64).
هاجس الخوف من الإبادة والزوال يتملك اليهود أينما حلوا، فجعلوا من قيادة الحرب وتأجيج الصراع حالة مستديمة لهم لا تعرف الاستكانة، إذ تراها الجموع اليهودية مسألة وجود، هذا العرف اليهودي والمسلك التاريخي مكن الولايات المتحدة الأميركية من استغلاله لتوظيفه لصالحها ليمثلون لها درعا وتخويفا في المنطقة، فلم يكن تواجدهم في الشرق إلا بمثابة تأدية وظيفة ارتادت لها أميركا أن تكون قوة تحت مسمى، ليكابد العرب الأمرين، فلم يعترفوا لها بالشرعية ولم يعطوها الأمان.
القرآن الكريم لم يرسم لنا فقط صورة هذا العداء البشري، بل انطلق إلى المسار التاريخي لتلك الجماعة، ما جعل الكثير من الباحثين يتخذ من سور القرآن مادة لرسم نهاية لهذا الوجود الخطر فالآيات القرآنية في سورة الإسراء «وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين... فإذا جاء وعد أولاهما... فإذا جاء وعد الآخرة...»، واتفق المفسرون على أن دولة اليهود تعرضت للزوال نتيجة حتمية لإفسادهم في الأرض مرتين أول مرة على يد احد ملوك بابل نبوخذ نصر قبل الميلاد بستة قرون تقريبا، أما المرة الثانية ففيها اختلاف، إذ يفسرها البعض بأنها الحادثة التي كانت على يد قيصر الروم إسبيانوس، إذ سير إليهم وزيره طوطوز فخرب البيت وأذل اليهود قبل الميلاد بقرن تقريبا. وليس من البعيد أن تكون الحادثتان هما المرداتان في الآيات الكريمة، إذ إن الحوادث الأخرى لم تفنهم جميعهم ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة.
لكن بعض الباحثين المحدثين يشيرون الى أن النهاية الثانية لم تقم بعد نظرا إلى اقترانها بالآخرة في الآية الكريمة من جانب ومن جانب آخر عودة اليهود في ملكهم وجبروتهم في 1948م وهو الذي لم يشهده علماء التفسير الاوائل، ونتيجة لذلك ظهرت علينا جماعة تربط تفسير الآيات بالأرقام اعتمادا على ما يروى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: «وكل شيء فصلناه تفصيلا» (الإسراء: 12) قوله: «معناه شرحناه شرحا بيِّنا بحساب الجمل»، وهو حساب عرف لدى العرب في تحويل الحرف إلى رقم بناء على الترتيب الأبجدي (أبجد هوز)، وهي هذا السياق وبناء على ما ورد في الآيات أشار احد الباحثين إلى أن «السورة القرآنية المصورة للإفساد الأول تتكون من (75) حرفا، والسورة القرآنية المصورة للإفساد الثاني تتكون من (75) حرفا، وإذا اعتبرنا أن العدد (75) يشير إلى وحدات زمنية، وإذا اعتبرنا بداية الإفساد الثانية سنة (1948) ميلادية، فهل سيتم الفتح العام (2023) ميلادي؟».
مفسرو القرآن لم يعتمدوا في الغالب على هذا التفسير الرقمي في تفسير آيات القرآن الكريم، لكن هذا ينم عن الهاجس الكبير والرغبة لدى الشعب العربي العريض في زوال هذا الكيان، ولم تتوقف تلك الحسبة على الآيات القرآنية بل تعداها إلى محاولة البعض تأويل خطابات زعماء الكيان الصهيوني، ففي اجتياح «إسرائيل» إلى لبنان العام 1982، صرح مناحيم بيغن بأن («إسرائيل» ستنعم بما نصت التوراة عليه من سنوات السلام الأربعين) فتنبأ البعض إلى أن نهاية «إسرائيل» ستكون العام 2022، وبهذا يكون الطرفان اتفقا تقريبا على نهاية «إسرائيل»، ذلك من علم الغيب والأمور بيد الله عز وجل، لكن هل بعد 60 عاما من القهر والظلم والضياع باتت بارقة الأمل في من يرفع راية التحرير، ويصدق بذلك شعار المؤتمر العام لفلسطينيي أوروبا الشتات «ستون عاما وللعودة أقرب»؟
نحن أمام مشهد سياسي جديد نتمنى ألا يخطئ العرب فيه مرة أخرى في التقدير، إذ نحن في هذه المرة في وضع مختلف ولم يعد بالمقدور زج الشعوب العربية نحو ما لا تريد، أما آن الأوان لأوهام السلة الأميركية أن تقف؟ لكن، من يسمع؟ ومن يدق الطبول؟
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 2080 - الجمعة 16 مايو 2008م الموافق 10 جمادى الأولى 1429هـ