العدد 208 - الثلثاء 01 أبريل 2003م الموافق 28 محرم 1424هـ

حرب الصدمة والرّعب... ومصائر الأوطان!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

سكت الكلام... و«المدفعية» تكلمت...

نعم، لم يعد الوقت وقت الكلام أو الحوار أو العقل والمنطق، فقد غاب كل هذا وتراجع، امام دوي الصواريخ وهدير الدبابات وطلقات المدافع، التي أدمت ارض العراق وبقرت بطون شعبه، فاستعادت الذاكرة حروب التتار على بغداد، التي دمرتها فحولت... لون مياه دجلة إلى اللون الاحمر!

سكت الكلام وعجز كل منطق، وتوارى العقل خجلا مع الضمير الانساني، أمام عنف ودموية حرب الصدمة والرعب، التي لايزال القادة الأميركيون يصفونها بأنها حرب «حرية العراق» وتحريره من نظام ديكتاتوري، حرب الاخيار الاطهار ضد الشياطين الاشرار...

سكت الكلام، ويجب ان يسكت، لانه فقد المعنى والمبنى، وفقد المنطق والتأثير، وعلى اصحاب مهنة الكتابة من امثالنا الاعتزال بحثا عن مهنة أخرى، بعد ان فقدوا دورهم في ظل هيجان أصحاب الدبابات والصواريخ الخارقة الحارقة، الذين صارت كلمتهم هي العليا في عالم جديد، تحكمه القوة الباطشة، التي ارعبت وروضت فصنعت لها جيشا موازيا من التابعين والمنافقين والمبررين...

ومخطىء من كان يتخيل في يوم من الأيام ان القوة الباطشة ذات الرداء الاميركي، ستتراجع عن هدفها المعلن، وخلاصته، تدمير العراق وإعادته مئة عام إلى الوراء، وربما إعادته إلى حضارة «اور» العراقية التي اخرجت قبل آلاف السنين سيدنا ابراهيم عليه السلام...

وليس هناك من تناقض أشد من هذه الصورة الدرامية الدامية المدمرة معا... قوة عظمى ركبت اعلى هامات التقدم والارتقاء العلمي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي، تمارس هواية تدمير بلد صغير وإعادته إلى قرون التخلف الاولى... لتتفرج تلفزيونيا على سوءات التخلف بعد التدمير الشامل، وتلقي إلى اهله الهامبورجر ومخصبات الديمقراطية!!

مخطئ من كان يتصور ان العراق بكل ما قيل عن امتلاكه اسلحة تقليدية واسلحة دمار شامل، سيقف صامدا في وجه غزو القوة الباطشة يقاومها ويناطحها وحده، وهو المحاصر على مدى اكثر من عقد بعدما ارتكبت قيادته خطأ عمرها وعمره بغزو الكويت العام 1990، فجرت عليه كل هذا الدمار...

اليوم يدفع العراق ثمنا باهظا من لحمه الحي ومن كيانه واستقلاله وغده، بعد ان ارتفعت فوق اراضيه اعلام بريطانيا العظمى واميركا الجبارة، ليس فقط عقابا على خطأ غزو الكويت، ولكن ليكون عبرة للآخرين من العصاة والمارقين، الذين يحلمون - اوكانوا - بتحدي إرادة اميركا بقوتها الباطشة، في عصر جديد تخوضه الحضارة الانسانية الحديثة مخضبة بالدم والدمار، جنبا إلى جنب مع التقدم والمنافسة، على نحو يثير الاندهاش والحيرة!

ولا وقت ايضا للاندهاش، بعد ان فرضت القوة الاميركية الباطشة كلمتها وصوتها، عبر أضخم آلة عسكرية ظهرت في التاريخ، وألقت في أقرب صندوق للقمامة، بكل ما ظلت تدافع عنه من مبادئ العدل والحرية والمساواة، القانون والنظام والشرعية الدولية، التفاهم والتسامح والتعايش، وهجرت لذلك ساحات مجلس الأمن والأمم المتحدة، وتحدت معارضة حلفائها الاوروبيين، وداست فوق مشاعر ملايين المتظاهرين الذين خرجوا إلى شوارع العالم، بما فيها الشوارع الاميركية ذاتها، يرفضون الحرب العدوانية!!

إذن... نحن امام تحول تاريخي هائل، وليس مجرد منعطف هامشي يمكن ان يزول بسهولة فور ان تصمت المدافع، كما يتصور بعض المحللين...

ذلك ان «حرب الصدمة والرعب» ان كان هدفها المعلن تدمير العراق ليكون نموذجا يخيف العالم يخضعه طائعا صاغرا لإرادة الثورة الباطشة، فإن هدفها النهائي، صوغ نظام عالمي جديد خاضع بالمطلق لهذه الثورة الاميركية الباطشة، من دون منافسين أو حتى حلفاء في الغرب أو في الشرق...

فها هو النظام العالمي القديم، القائم على أنقاض الحرب العالمية الثانية ثم على انقاض الحرب الباردة، والمرتكز على تحالف اطلسي اوروبي اميركي ينهار، وخصوصا في ظل الوقفة الفرنسية الالمانية المعارضة للانفراد الاميركي الذي جر وراءه التابع البريطاني، ثم في ظل الصحوة الروسية التي عانت من التهميش والعزل، وربما الاحتقار منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات من القرن العشرين...

وها هي المنظمة الدولية - الأمم المتحدة - التي اتخذها العالم على مدى اكثر من نصف قرن، مظلة واقية للأمن والاستقرار وتنظيم العلاقات الدولية، وساحة واسعة للحوار والتعايش والتنافس والتعاون، تصاب بالشيخوخة المفاجئة، بل نكاد نقول تصاب بالسكتة القلبية، بعدما انتزعت منها القوة الاميركية الباطشة النفوذ وسلطة القرار، وألقت في مياه النهر الشرقي الذي يطل عليه مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، بورقة الشرعية الدولية، تدفعها امواجه الهائلة نحو المصب في المحيط الاطلنطي لتغرقها في امواجه الهادرة.

وها هو منطق الاحتكام للقانون والقضاء والمحكمة الدولية، يسقط تحت جنازير الدبابات التي اجتاحت العراق فدمرته، ودمرت معه مبدأ تحكيم القانون في العلاقات الدولية، اللهم الا قانون القوة الباطشة الذي صار منفردا بنا وبالعالم أجمع، ذلك العالم الذي انقسم بقوة وعنف، وهو يلتف حول شاشات التلفزيون يتابع فيلم الصدمة والرعب في العراق، قسم يشاهد ويتسلى ثم يعجب بشجاعة صواريخ كروز، التي تطلق على اهدافها عن بعد يصل إلى مئات الكيلومترات فتدمرها، وقسم يشاهد وينكمش في مقعده او فراشه ويغلق عقله ويصادر تفكيره، من هول ما سيأتي به الغد، بعد الانتهاء من تدمير العراق بالصدمة والرعب!

مستقبل الأوطان ومصيرها فيما بعد حرب الصدمة والرعب... هو الذي يشغل ضمير العالم، والذي يجب ان يوقظ ضميرنا، الذي نام واستراح على وقع صواريخ كروز تدمر عاصمة الخلافة العباسية، والتي ازهرت حضارة العالم وعقله وفكره، ذات يوم حين أينعت فيها الثقافة والفكر والفن والعلم والفلسفة قبل نحو الف سنة، فإذا بها اليوم ترد قسرا إلى غياهب التاريخ ومجاهل الحضارة كما فعل بها التتار ذات يوم!

نعرف أن قاصري النظر فاقدي الحس التاريخي والضمير الانساني، يبتهجون علنا بتدمير العراق وانتصار القوة الاميركية الباطشة، بحجة ان النظام العراقي كان ديكتاتوريا دمويا باطشا هو الآخر، وبحجة انه يهدد أمن دول الجوار وانه سبق ان ارتكب خطيئة غزوه للكويت، وكل هذا صحيح، لكن الصحيح الاصلي والحقيقي هو ان تدمير نظام حاكم متهم، لم يكن يحتاج إلى تدمير دولة ووطن وشعب متعدد الاعراق قديم الديانات عميق الثقافات غني بالامكانات، إلى الدرجة التي تعيده إلى قرون سحيقة من التخلف، حتى ينهض بمعجزة ان جاءت بعد سنين أو قرون!!

ونظن ان امة العرب التي «كانت خير أمة أخرجت للناس» هي اول من سيدفع الثمن التاريخي لجريمة تدمير العراق غدا أو بعد غد، حين ينقشع عن الأفق غبار معارك التدمير، وترتفع على بغداد لعقود مقبلة راية النسر الاميركي، ويصير «العراق الاميركي الحر» هو النموذج المفروض في المنطقة، بموازاة النموذج الاسرائيلي المنفلت على الناحية الاخرى...

ربما يتصور أحد اننا نقول ذلك، تحت تأثير هول حرب الصدمة والرعب، لكننا نقول ما يعلنه الاميركيون والاسرائيليون انفسهم من دون مواربة... إعادة تقسيم المنطقة ورسم معالمها السياسية من جديد، بعد ان فشلت كل نظمها «الوطنية والقومية، الثورية والمحافظة، الحليفة قبل المناوئة»، في تطويع شعوبها وتحديث عقولها وتلوين ثقافاتها بل وتعديل أديانها، لتتلاءم مع القيم الغربية والمطالب الاميركية والتهويمات الصهيونية!

مصير الأوطان... هو الذي يجب ان يشغلنا قولا وفعلا، والعاصفة الهوجاء تعصف به بلا رحمة ولا حتى بوصلة، بعد ان فقدنا البوصلة وضللنا الاتجاه الصحيح فتهنا وضاعت خطانا في سراب الرمال، وتعلقنا بأحبال واهية اخذتنا في النهاية - كما ترون - إلى المشنقة...

من فوق «طبلية» المشنقة الراهنة، نقول ونعيد إن مصير الاوطان أهم من مصير النظم والحكومات والحكام وخصوصا اننا في مواجهة قوة باطشة لا تقيم وزنا حتى لصديق أو حليف، إلا اذا كان قوي الإرادة مستقل القرار محترم الرأي واضح الموقف، أما الذين يقولون ولا يقولون، يخافون ويرتجفون، يتنازلون ثم يتنازلون، فلا قيمة لهم ولا وزن ولا احترم...

مصير الاوطان... يحتاج الان إلى وقفة وموقف، رؤية وراية وبوصلة سليمة تحدد الاتجاه الصحيح الذي ضللناه، يحتاج إلى تمعن حقيقة الدرس - النموذج الذي تقدمه الينا على طبق من دم، حرب الصدمة والرعب في ربوع العراق، الذي انكسرت فيه «عمتكم النخلة» امام كروز القوة الباطشة، التي لا ولن ترحم حتى الحلفاء والاصدقاء إن ظلوا ضعفاء.

الآن... سكت الكلام وفقدت الكتابة معناها وغام المنطق وعام العقل على اجنحة القاذفات الجبارة، وسقط الفكر تحت جنازير الدبابات الزاحفة علينا من كل صوب... وفي مواجهة كل ذلك لا تنفع الحلول الوسط ولا الألوان الرمادية.

ربما... يأسا من الحلول الوسط وبحثا عن الالوان الواضحة غير الرمادية، خرجت الملايين من المقهورين المحبطين في مظاهرات الشارع، رفضا لحرب الصدمة والرعب، فألقيت نفسي في أتونها الهادر، علني اجد على النار هدى!!

خير الكلام: يقول الشاعر:

إذا كان النفاق عليك فرضا

فأبلغ ما تقول هو السكوت

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 208 - الثلثاء 01 أبريل 2003م الموافق 28 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً